يتحدث عبد الوهاب المسيري عن ميل الغرب لتصدير مشكلاتهم للعالمية وتحويلها إلى قضية أممية بدل معالجتها في نطاقها في ما يسميه بمصطلح الترانسفير (*). أعتقد أن لدينا ميل معاكس، وهو الميل لاستيراد المشكلات وتبنيها ومحاولة إسقاطها على واقعنا.
في حادثة قتل جورج فلويد الأمريكي الأسود على يد شرطي أبيض في الولايات المتحدة الأمريكية، اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي للمطالبة بحقوق السود الذين يقتلون عمداً أو بغير عمد في أمريكا على يد الشرطة وكانت تحت شعار حياة السود مهمة BLACK LIVES MATTER . تعاطف العالم أجمع مع الحادثة التي أقل ما يقال عنها بأنها شنيعة وناجمة عن استهتار بحياة السود.
بالتزامن مع هذه الأحداث والغضب العالمي. ظهرت منشورات عربية تشير إلى سوء معاملة السود عند العرب وضرورة إصلاحها وإلا فإنها مشابهة لما يحدث في أمريكا، وأن على العربي أن لا يكيل بمكيالين فيهب لنصرة جورج فلويد بينما يحتقر الأسود في مجتمعه ويمارس التمييز العنصري ضده. وانتشرت هذه الفكرة بشكل كبير مادامت القضية مفتوحة والعواطف غالبة على المشهد. لكنني توقفت عند تلك المنشورات بتعجب كبير جداً. حيث أن ظاهر الأمر منطقي، (إذا كنت ترفض التمييز العنصري ضد السود في أمريكا، فعليك رفضه في مجتمعك أيضا) إلا ان العبارة تنبني على مغالطات كبيرة تجعل القياس كله غير صحيح في نظري. وتجعلني أجرؤ على الزعم أنه لا وجود لهذه المشكلة في مجتمعنا أساساً، أثبت ذلك بالنقاط الثلاث التالية:
١- اختلاف التاريخ والجغرافيا للمشكلتين لا يدع مجالاً لِكَيْلِهِما بنفس المكيال: المنطقة العربية سكانها الأصليين من السمر والسود، أي أن هذه الأرض أرضهم أساساً سواء كانوا من العرب السود أو الأفارقة أو الأمازيغ السود. كلهم سكان أصليين يعيشون في بيئتهم وقبائلهم الأصلية، وهذا ما يجعلهم في نقطة قوة وفرق القياس كبير بينهم وبين السود الذين هجّروا جماعات إلى أمريكا وانتُزِعوا من مواطنهم ثم عاشوا غرباء. حتى أنه تاريخا الممالك الإفريقية أو العربية أو الأمازيغية كانت لها سلطة تاريخيا وصلت لاستعباد البيض، وإلى اليوم الكثير من السود في مناطقهم لديهم سلطة وتمكين قد لا يحضى بها البيض. على سبيل المثال القبائل السوداء دول الخليج، تحضى بحياة أكرم وبدرجة اجتماعية أعلى وتمييز عنصري لصالحها مقابل البيض من الجنسيات الأخرى الذين تعيش بينها. وبالتالي هنا الإشكال لا يمكن حتى القياس عليه.
٢- ثانيا، على عكس المشكلة في الولايات المتحدة الأمريكية المشكلة في المجتمعات العربية لم تكن قانونية يوماً، وإنما هي مشكلة اجتماعية بحتة. لم يكن هناك قانون يميز بين الماء الذي يستخدمه الأبيض والذي يسمح للاسود باستخدامه، بين مكان جلوس الأبيض والأسود، بين طوابير انتظار البيض والسود، بين الخدمات المقدمة للبيض والسود. وهو ما يفسر الاعتصامات التي تدعو لتحرير السود من بقايا تلك القوانين الجائرة في أمريكا لأن الظلم في هذه الحالة جزء من النظام المتّبع. ولكن ما يحدث في مجتمعات العرب مشكلة اجتماعية من مخلفات الاستعمار الذي كان يزدري شكل السكان الأصليين، ويفضل اللون الأبيض بجميع صفاته. فنتج عنه ما يسمى بعقدة الخواجة، وربما هي العقدة نفسها التي وصفها ابن خلدون في قاعدته الشهيرة ” المغلوب مولع بتقليد الغالب في شعاره وزيه ونحلته” ويعتبر لون البشرة من ضمن الزي الخارجي المفضل
٣- تبعا للنقطة السابقة أقول أن المشكلة الاجتماعية في المجتمعات العربية هي مشكلة تنميط لمعايير الجمال والقبول. وهي لا تخص السود تحديداً، وإنما هو نطاق spectrum تدرج من الأبيض إلى الأسود كلما كنت أفتح كلما كنت مفضلا شكلياً وكلما كنت أغمق كنت أقل قبولا. وبما أن الأسود يقع في آخر النطاق من التدرج اللوني وقع عليه أكبر عبئ من العنصرية. باختصار المشكلة ليست مع كونه عرق أسود بحد ذاته هي عقدة مركبة تشمل المجتمع ككل، الجميع يدخل في هذه المُفاضلة. وهذا يجعلني بجرأة أزعم أنه لا وجود لمشكلة “سود” وإنما هناك مشكلة “سواد” إن صح التعبير، فالمشكلة مع صبغة الميلانين تحديداً. بالتأكيد لا أحاول هنا أن استصغر معاناة السود من هذه المشكلة الاجتماعية، حيث أنه يترتب على هذا التنميط للمعايير الجمال صعوبات كثيرة تتسبب لهم في مشكلات نفسية أو قلة فرص في مناصبهم ومساراتهم المهنية أو تعرقل حياتهم الاجتماعية في التعارف والزواج وكل هذا يجب تسليط الضوء عليه ومنعه ومحاربته. لكن في نفس الوقت يجب تسمية الأشياء بمسمياتها. هذه ليست مشكلة السود وحدهم، بل هي مشكلة عامة. مقارنةً بمشكلة السود في أمريكا فهي تقع على كل ذوي الأصول الإفريقية بغض النظر عن تدرج لون بشراتهم. وهي مشكلة عرقية بحتة من شدتها وصلت إلى الاستهتار بحياة الأفراد التي جعلت الناس تنادي حرفياً بأن “حياة” السود مهمة!
مراجعة الذات وتصحيح المسار واغتنام فرص تصاعد قضايا عالمية للتذكير بقضايا محلية قد يكون أمراً جيداً لتصحيح المسار، لكنني رأيت إسقاط مشكلات بحجم قضية حياة السود اسقاط مجحف جداً غير مفيد. في المقابل استحسنت قياس الذين أشاروا إلى سوء معاملة العمالة الوافدة من دول شرق وجنوب آسيا ورأيته قياساً أقرب بكثير إلى الصحة والتشبيه في سياق أحداث مقتل جورج فلويد.
كما أن كفالة جميع حقوق السود أمر مهم، فإن أيضاً من المهم عدم ربط اسمهم بالظلم والانهزام وكثرة التعاطف حتى في ما لا يستدعي ذلك.
(*) العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة – المجلد الأول – عبد الوهاب المسيري