الأسرة وصلة الدم

منذ عدة أشهر درست مساقاً عن بعد من جامعة هارفرد في مجال أخلاق البيولوجيا بعنوان:
أخلاقيات بيولوجية: القانون، الطب، والأخلاق في تقنيات الإنجاب والجينات
Bioethics: The Law, Medicine, and Ethics of Reproductive Technologies and Genetics
يقدمه دكتور بكلية القانون Glenn Cohen

المساق هذا متعب نفسيا لدرجة تهيئ لي أنه شيّب رأسي. طرح المساق قضية بيع وشراء الأمشاج (1) والأجنة واللتي تسمى عُرفا “التبرع” لقسوة مصطلح “البيع”، ما أثار استهجاني بادئ ذي بدأ، حيث أنه من الواضح أن مشرعي المتاجرة بالأمشاج يعبؤون بقسوة المصطلح أكثر من الفعل ذاته. وهنا يقع الإشكال الأول، العملية هذه هي عبارة عن اتجار بالبشر حرفياً، وتغيير المصطلح إلى “تبرع” لا يغير حقيقة أنها عملية بيع وشراء. حيث أنه في هذه الحالة الأم أو الأب الذي اشترى النطفة يمتلك طفله، والطفل أصبح مملوكاً. لكن هذه الحقيقة لا يتم اعتبارها ولا التطرق إليها في أي من فصول المساق.

استهل Glenn Cohen المساق بالموانع الأخلاقية التي تعارض عملية التبرع بالأمشاج والأجنة لكي تُناقش، وذكر سبع معارضات أخلاقية لعمليات التبرع، من بينها ما ينتج من التسليع، الاستغلال، مُلابسات تحسين النسل، …إلخ (2) واعتُمِدت هذه المعارضات على أنها المنطلق التي نسير عليه طيلة المساق، ونحاول إيجاد حلول لها

مشكلتي أنني أرى أن أيّاً من تلك “المعارضات الأخلاقية” لا تمس المشكلة الحقيقية التي تستدعي معارضة المتاجرة بالأمشاج. نعم أتفق مع كونها مشكلات تنتج عن المتاجرة بالأمشاج والأجنة ولكنها ليست المشكل الأساسي. وعجبت جدا لعدم مساس هذا البرنامج بصلب المشكل الحقيقي الذي يستدعي منع المتاجرة بالأمشاج والأجنة وهو: إغفال صلة القرابة الدموية. حيث أن الأمشاج التي تباع وتشترى تنتج أطفالا لهم قرابة دموية مقطوعة. لا يعرفون أقرابهم من الدم. وهنا بدى جلياً لي مدى إغفال روابط الدم والرحم في المجتمعات الغربية. لدرجة أنها لم تعد تخطر ببال مساق متخصص يطرح الإشكالات الأخلاقية في بيع وشراء الأمشاج! علما أن المساق متخصص ومن جامعة علمية لا غبار عليها، ومعلم المساق دكتور قانوني متمرس، وأحب أن أعتقد أنه صادق في طرحه وباحث عن الحقيقة.

وجدتني الطالبة الوحيدة التي طرحت هذا الإشكال في المناقشات. وهكذا من النقطة الأولى في المساق كنت قد خرجت من الأرضية المشتركة التي اعتمد عليها المساق كاملاً في طرحه. ولأن الافتراضات المبدئية التي اعتمدها لم اتفق معها، كانت بقية المساق بالنسبة لي كلام لا يعني أي شيء منطقياً ولا يمكنني أن أصل الى نتيجة مع أي من الحلول والاشكالات التي يطرحها للقضية.(3)

ركز المساق على طرح الكثير من الإشكاليات الناتجة عن المتاجرة بالأمشاج مثل: تحسين النسل واختيار صفات الطفل، حق الأمومة والأبوة والنفقة، حق الطفل في معرفة المتبرع، الأمراض الوراثية، كثرة عدد الأبناء لفرد واحد (مثلا هناك من لديه ثمان مئة طفل لأنه تبرع بثمان مئة حيوان منوي)، ظهور الصفات المتنحية، ….إلخ.

تجاوزت غياب الأرضية المشتركة بيني وبين المساق، وفرضت جدلاً أن الرابطة الدموية غير مهمة. في هذا المشهد، يصوّر مؤيدي المتاجرة بالأمشاج ـ وغيرها من التشريعات مثل التبني ـ أن الأسرة يمكن أن تتكون من أفراد لا يشتركون في الدم، ويكفي الحب والعناية لصنع عائلة متماسكة تحمي الطفل بكل ما لديها وتحبه كما يحب الأبوين البيولوجيين أبناءهم. وهي توافق دعوات جديدة لتنويع شكل الأسرة، وأن الأسرة لا تتكون بالضرورة من ذكر وأنثى وأبناء، حيث يمكن أن تتكون من أي مجموعة غير متجانسة من الأفراد….. وربما حتى الدواب. حيث ترى كثيرا الأسر التي تعدد أسماء كلابها ضمن تعدادها لأسماء أفراد العائلة.

هنا وجب إعادة تعريف الأسرة بناء على الهدف الأصلي من تكوينها. إن تكوين الأسرة هدفه الوحيد هو تحقيق الحياة الكريمة والراحة النفسية للأطفال ـ لا البالغين ـ ولتقييم هذا الشكل من الأسر نطرح سؤالاً : هل يحقق هذا النموذج الراحة النفسية والاتزان النفسي اللازم لنمو طفل سليم

بالتأكيد هذا الشكل من الأسر فشل في تحقيق الهدف، بدلالة أمرين ظاهرتين رأيتهما في أبناء المتبرعين ليس لها أي تفسير سوى أهمية رابطة الدم وأنها رابطة لا تنفصل. الظاهرتين هما:

١- المطالب التي تدعوا للكشف عن هوية المتبرعين لأبنائهم
٢- المواقع الإلكترونية التي تضم ابناء المتبرعين ليجدوا إخوتهم البيولوجيين

بعد مرور سنوات من تنظيم عمليات تبادل المادة الوراثية، وجدنا أن أبناء المتبرعين يبحثون بحثا حثيثا مضنيا عن أصلهم الجيني، لدرجة أنه بتعبيرهم تعتبر عملية البحث عن أصلهم الدموي هي القضية الأولى في حياتهم التي تراودهم بشكل دائم مع كل صباح ومساء، لدرجة جعلت ضغطاً حقوقياً على بنوك الأمشاج وقوانين الدول لتكون هوية المتبرع مكشوفة لابنه (عرقه صفاته، عمله، .. وغيرها). ليس ذلك فحسب، ولكن وجدنا أنه تم إنشاء مواقع إلكترونية كمحركات بحث عن الإخوة الدمويين، والتي ضمت أعدادا كبيرة من ابناء المتبرعين ليجدوا صلاتهم وأقاربهم وإخوتهم.

السؤال هنا: مادام الحب كافياً لإنشاء أسرة ليس بينها قرابة دم، فلماذا تأسست هذه المواقع التي تسعى لتوصيل الأبناء بصلاتهم الدموية؟ ولماذا ظهرت مطالب بكشف هوية المتبرعين؟ لماذا لم يعش هؤلاء الأبناء ويموتوا بدون أن يتساءلوا عن صلاتهم الجينية؟ هنا لماذا كبيرة جدا أتوقف عندها. يجب أن تكون هناك رغبة وحاجة ملحة جداً لدرجة تكوين هذا الضغط وظهور هذه المساعي سالفة الذكر.

يتساءل أبناء المتبرعين باستمرار، من أنا؟ هل لدي إخوة؟ كيف يبدو والدي البيولوجي “المتبرع” وغيرها من الأسئلة. وعندما يصل أحدهم إلى إجابة هذه الأسئلة ويتمكن من لقاء صلاته البيولوجية، ينهار من السعادة أو التعاسة. تشير الكثير من الدراسات إلى أن أبناء المتبرعين يواجهون ضِعف احتمالية الاصابة بأمراض نفسية مثل الاكتئاب والتوتر ومشاكل في الهوية (4) ، هذا على الرغم من أن أسرهم قد توفر لهم جميع متطلبات العيش الكريم. كثيرون منهم شاركوا قصصهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وفي منصات مثل تيد ليحكوا عن حياتهم.

لدرجة جعلت إحداهن تغار من صديقتها اليتيمة! وتشعر أن حالها أفضل لأنها تعرف أن والدها متوفٍ، أما هي فلا تعرف إن كان لديها أب. وهذا بالتحديد ما أجده صعباً في هذه القضية. رأينا خلال التاريخ من ظلم الإنسان للإنسان أمثلة يمكن أن نتفق على بشاعتها. لكن النموذج الذي أقف عنده، أراه أسوء من كل تلك الأمثلة. أن لا يعرف الإنسان نفسه، وأن يكون المتسبب في ذلك العناء هو أقرب الناس إليه وليس عدوه، هو أمر مأساوي.

أعتقد أن العلم التجريبي والمنطق قد يعجزان عن تفسير الحب بين شقيقين بالدم لا يعرفان وجود بعضهما، لكن كلاهما يبحث عن الآخر، ويعجز أيضا عن تفسير شعور الأم بالخطر الذي قد يحدق بابنها في مدينة تبعد عنها آلاف الكيلومترات. ولذلك يخطئ ويتجاوز صلة الدم وينساها، إلى أن يرى أن نسيان هذه الرابطة وعدم اعتبارها لا يلغيها من الوجود، ولكنه يخلق محاولات ومؤسسات، ومواقع ومطالب لإعادتها وترميم ما كسر منها. لا أعتقد أن العلم التجريبي ولا المنطق البحت يمكنه أن يفسر هذا الشعور الذي قد يبدو غير منطقي بتاتا.

لكن العِلم يمكنه أن يفسر أمراً آخر … إذا عدنا إلى بداية الحياة ..

الخلية الحية ، وجميع الكائنات الحية تسعى إلى بقاء جيناتها والحفاظ عليها، وذلك بالحفاظ على حياتها، والدفاع عن نفسها، وأيضا تسعى إلى نسخ جيناتها ونشرها. وذلك لضمان استمراريتها بعد موتها. تلك سنة الله في خلقه وتشترك فيها جميع الكائنات أياً كانت، صغيرة أم كبيرة، معقدة أم بسيطة، ومن بينها الإنسان. ولذلك فإن التضحية والحماية الشرسة التي تقدمها الأم لأبنائها هي فطرة نراها في جميع الكائنات، جرب أن تؤذي جرواً أمام أمه مثلاً ستتحول أمه إلى وحش كاسر. وتفسيرها باختصار أن الأم والأب يريان في ابنهما استمرارية لجيناتهما. الأمر يمكن وصفة بالأنانية كما وصفه ريتشارد دوكنز في تفسير “الجين الأناني”. وهذه هي الحقيقة، الحب وحده لا يضمن حماية حقيقية للأبناء والأطفال، والعامل الجيني المشترك هو العامل الأهم في الاستقرار.

واذا نظرنا إلى هذه الرابطة الدموية في دائرتها الأوسع، فهي تكون ما يوصف بالعصبية القبلية كما يسميها ابن خلدون في كتابه المقدمة. حيث تفسر العصبية الحماية والرعاية والحب اللامشروط الذي تقدمه القبيلة لمن ينتمون إليها عرقياً لمجرد القرابة الدموية لا أكثر! وهذا لا يمكن تحقيقه بنفس القوة تحت أي رابطة غير الرابطة الدموية.

ما أراه كنتيجة لتشريع بيع وشراء الأمشاج هو قطع لصلة الدم وما معها من مشاعر جياشة غير مشروطة، لا يمكن علاجها أو تعويضها. تنتج أفراداً لا انتماء لهم، ولا يعرفون من هم، كل أملهم في الحياة أن يروا من يشبههم فيلجؤون للبحث عن من يشبههم في مواقع الانترنت رغم توفر جميع مقومات الحياة والحب في أسرهم التي لا تشبههم جينياً!. الإنسان يرى في نفسه ما يشبه به أمه وأباه وجده. فيستطيع بذلك معرفة سلوكياته وتفسيرها وتوقها. أما من لا يعرف مصدر جيناته، فهو يصحو يومياً على سؤال “من أنا! من أين حصلت على هذه الصفة وتلك!”.

النقطة الأخيرة التي سأختم بها هي رأي الشريعة الإسلامية. أعتقد أن الشريعة الإسلامية تعطي الإنسان قواعد مختصرة مثل وجوب حفظ النسب، لا يمكن للعقل البشري وحده وما أنتجه من علوم في الأخلاق والقانون وعلم النفس، أن يصل إلى قاعدة كهذه دون خسائر فادحة، ومدة زمنية قد تطول جداً.

المشكلة الأولى التي شكلت المنحدر الزلق هي عدم الاعتراف بحفظ النسب وصلة الرحم. محاولة علاج الإشكالات الناتجة عن تجاوز هذه القاعدة هي محاولات يائسة جداً، مثل إلزام المتبرعين بالكشف عن هويتهم. والرجوع إلى الوراء غير ممكن، طالما أن الباب فُتح، يصعب إعادة إغلاقه. أنا أُحسِن الظن في العلماء والقانونيين الذين شرّعوا هذه المتاجرة. لأنهم لا يملكون مصدر التشريع الذي أملك! وهو ما مكنني من تقييم الأمر بشكل أسهل رغم فارق المعرفة والذكاء الشديد بيني وبين دكتور في القانون وأخلاقيات البيولوجيا في جامعة هارفرد. لكنني متأكدة تماما من محدودية القدرة البشرية على فهم وتطبيق قاعدة بهذه الصرامة. ولذلك أصبح “كل ما يمكننا فعله” مشرّع. واستسلم البشر لإمكانياتهم وأصبحت تقودهم.

أحد أبناء المتبرعين محطمة نفسياً في مقابلة سُئِلت: لو كان لديك قدرة على تشريع أي قانون، ما القانون الذي ستضعينه؟ توقعت أن تقول بمنع المتاجرة بالأمشاج بعدما حكت مطولاً عن تجربتها العاطفية التعيسة مع نفسها وهويتها، لكنني عجبت بأنها اكتفت بأن تقول : سأسن قانوناً يلزم المتبرعين بالكشف عن هوياتهم. وتوقفت طويلاً عند إجابتها، حيث بدا لي جلياً أن الإنسان ليس لديه الجرأة لأخذ حقوق موازية لتلك التي يقضي بها الشرع له، حتى وإن أعطي الخيار! حتى في أحلامه لا يجرأ بأن يحلم بها! لا يفكر في إكرام نفسه أكثر من حد معين.

قوانين الشريعة الإسلامية ، مثل وجوب حفظ النسب، وتحريم كل ما يمسه من زنا وتبني. هي قاعدة تتوافق تماما مع الطبيعة البشرية التي خلقنا عليها، الطبيعة التي يميل فيها الكائن إلى نوعه وجنسه وأصله ويحافظ فيها على نسله.

من ناحية أخرى، تساألت ، من المستفيد من كل هذا؟ هل يستدعي “العقم” كل هذا اللغط؟ ولماذا لم يكتفي ؤلائك -كما اكتفوا في السابق- بالتبني؟ شعرت أن أغلب الأطراف في المعادلة غير مستفيدين، لكن وجدت أن أكبر مستفيد من تشريع المتاجرة بالأمشاج هم LG**I لأنها الطريقة الوحيدة التي تسمح لهم بإنجاب الأطفال.



ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الأمشاج هي الخلايا الجنسية المنصفة : البويضات والحيوانات المنوية. والتي ينتج عن اندماجها الجنين.

(2) Corruption, Crowding Out, Coercion, Exploitation, Undue Inducement, Justified Paternalism, Unfair Distribution, Eugenics.

(3) مثلا: إذا كنت ترى أن لا يجب أكل الحلوى لأنها ضارة صحياً، وطُرحت حلول كأن تقلل أسعار الحلوى، وأن تضاف إليها منكهات لكي تصبح ألذ. لن تُحل المشكلة في نظرك لأنها مازالت ضارة! والحل المطروح يحل أمورا ثانوية، لكنه لا يمس المشكلة الحقيقية التي منعتك من شراء الحلوى. وبالتالي فإن كل ما يُبنى عليه لا معنى له. فلو سُألت مثلا: في نظرك ما نوع النكهات التي يجب اضافتها للحلوى؟ لن تكون لديك إجابة لأن المنكهات اساساً لن تحل المشكلة! (في عالم المناظرات نسيمها الأرضية المشتركة ، وهي الافتراضات المتفق عليها التي ننطلق منها.. هنا الأرضية المشتركة بيني وبين المساق كانت مفقودة)

(4)http://www.thehealthculture.com/2010/06/my-daddys-name-donor/
https://slate.com/human-interest/2010/06/new-study-shows-sperm-donor-kids-suffer.htm