كيموكو وصديقه مهاجران من إفريقيا الغربية إلى أوروبا..
يجلسان على صناديق خشبية بينهما نار يتدفآن بها..
بين حدود المغرب وموريتانيا
…
– كيموكو: في اللإرسالية الصغيرة التي كانت بجانب كوخنا ..
تعلمنا الخرائط والبحار وقارات العالم ..
لكنها خرائط لا تشبه الواقع إلا في أسمائها ..
لم يخبرونا في الإرسالية عن الطرق البرية والبحرية الوعرة يا صديقي ..
لم نتعرف هناك سوى على دروب الأثرياء، وحدود الدول المرسومة بأسلاك شائكة كثيفة
في الخريطة التي رسموها تبدو الكرة الأرضية كبيرة جداً ..
لكنها الآن لا تبدو بالاتساع الذي ظننت في صغري ..
إنها لا تسع جميع سكانها .. فلا مكان أبداً للفقراء فيها ..
لقد كنت في صغري أحلم بأن أجوبها مع والدي ..
كنت أحلم أن أجوبها حراً لا هارباً ..
– الأرض هذه لا تشبه تلك يا كيموكو..
ففي هذه الأرض لا يمكنك السير بحرية إلا إذا كنت ثريا … أو ربما أبيضاً
هنا إذا تحركت هاربا من فقرك الذي فرضوه عليك أطلقوا عليك اسم مهاجر غير شرعي
– كيموكو: لا ضير! (يضحك) ها نحن الآن أصبحنا غير شرعيين إذا ..
غير مقبولين في كرتهم الأرضية وجغرافيتهم ..
غير محسوبين في تعدادهم السكاني ..
أصبحنا آفة اجتماعية يجب أن ينظر في أمرها ..
أليس كذلك!
– أيها المسكين .. ومنذ متى كنت شرعياً!
إن جميع أفعالنا وأقوالنا وتحركاتنا غير شرعية منذ أن ولدتنا أمهاتنا سوداً في الأكواخ غرب القارة السمراء ..
لم تكن يوماً مواطناً شرعيا يا كيموكو .. أسياد الكرة الأرضية وراسموا الجغرافيا هم الشرعيون وحدهم ..
أفعالهم مبررة وشرعية مهما بلغت من عدم الشرعية ..
عجباً! ألم تتعلم هذا في الإرسالية التي تتحدث عنها!
كيموكو: آه نعم في الإرسالية .. !
في الإرسالية ضربني الأستاذ يوما عندما قلت بأنه لا جدوى من وجود الأسلاك الشائكة تلك ..
جادلته طويلاً ورفضت التسليم لدروسه..
قلت بأن الأسلاك تشوه الكرة الأرضية ..
كنت أرى بأنها ستعيق رحلتي بين الشرق والغرب ..
الرحلة التي كنت أرسمها في مخيلتي مع والدي ..
وبخني الأستاذ وقال بأنني متمرد على القانون ..
أحببت الوصف ذلك رغم أنني لم أع ما تعنيه الكلمة لصغر سني
كل ما همني حينها أنها وصف لمن يكره الأسلاك الشائكة،
لقد حرمت يومها من الخروج إلى الساحة ولعب اللودو (Ludo) مع الرفاق ،
بكيت بكاء مريراً ذلك اليوم ..
فلقد كنت محتاجا إلى المـال الذي سأجنيه من نجاحي في اللعب لشراء آلة خياطة لأمي
أمي تخيط الملابس وتبيعها في السـوق ..
المسكينة احدودب ظهرها من الخياطة المتواصلة
تمنيت أن أشتري لها آلة خياطة لتريح ظهرها المنهك
في الواقع، لم أكن لأشتريها أبداً فهي باهضة الثمن .. كانت مجرد أماني..
مازلت إلى الآن لا أؤمن بجدوى الأسلاك الشائكة .. ولن أفعل ..
سأخترقها ولن أعترف بوجودها ما حييت
– لا تبتأس كثيراً بالواقع .. فها نحن على مشارف أرض المهاجرين الآن ..
أستطيع أن أشم رائحة المتوسط من مكاني هذا.. ربما اقتربنا من حلمنا المنشود ..
(يتنهد) لكن أتعلم! هذه “الربما” تقلقني إلى حد الجنون ..
ماعدت أعرف هل نحتفل بقربنا من المتوسط أم أن علينا أن نكتب وصيانا لأهالينا!
إن هذا البحر يبتلع المئات من المهاجرين سنوياً!
– كيموكو: وماذا عساك تكتب في وصيتك! هل ستوصي بتوزيع أملاكك على ورثتك بالعدل! (يضحك)
لا تشغل بالك كثيراً فهذا شيئ يحسدنا الأثرياء عليه، نحن نغمض أعيننا براحة حين نغمضها..
أنا أيضا تارة أعد اقترابي من المغرب اقتراباً من جني الثمار التي تعهدناها بالرعاية لمدة أشهر..
وتارة أراني باقترابي هذا أقترب من موتي الذي استعجلت به على نفسي ..
نحن لم نأمن الأرض التي نسير عليها فكيف نأمن موج البحر الذي سنخوضه بقوارب صغيرة تحمل أعداداً كبيرة من المهاجرين أمثالنا! ..
– إن هذه الأعداد الغفيرة من المهاجرين لم يجدوا مناصاً للهروب من فقرهم إلا بالتمرد على الخرائط التي رسمها الأثرياء!
لكنهم بالتأكيد لا يدركون حجم المجازفة التي يخوضون..
علقوا آمالهم بتعاويذ ربطوها حول أعناقهم بغية أن تنجيهم من الهلاك ..
ومادروا أن من التعاويذ من هلك أصحابها وعادت إلى الشاطئ يحملها الموج بسلام..
وربما كانت الإرث الوحيد لأهاليهم ..
إن التمرد على الخرائط ليس بالأمر اليسير أبداً ..
– كيموكو: لا تكترث بالخرائط كثيراً يا صديقي فسأرسم خريطتنا ..
خريطة الفقراء
أخط فيها مواطئ أقدامنا نحو الحرية ..
لا درب فيها سوى الدروب الوعرة ..
الدروب الطينية والصخرية ..
أليست دروب الحرية وعرة دائماً!
سأرسم خريطتنا يا صديقي ..
لكنني لن أرسم فيها أسلاكا شائكة أبداً