لطالما كرهت الفكرة القائلة بأن تاريخ البشرية مر بتحسن وترق نقله من البدائية إلى التقدم الذي نشهده الآن. ولطالما كرهت أيضاً مصطلح “الإنسان البدائي” والذي يشير إلى أن الإنسان قديماً كان مخلوقاً بدائياً يعيش حياة بسيطة لدرجة تشابهها مع الحياة اليحوانية التي لا هم فيها سوى البقاء على قيد الحياة، يعيش بين الغابات، ويأكل اللحم نيئا، ويتحدث لغة بسيطة مبهمه… وأننا الآن نعيش أقصى حالات التقدم والفهم والرقي التي مرت على تاريخ البشرية لأننا نستخدم تيكنولوجيا جديدة وسريعة جداً. لأسباب كثيرة لا أستسيغ هذه الفكرة وإن بدت للكثيرين من المسلمات والبديهيات. وقد صادفت يوماً كتاب خرافة التقدم والتخلف للكاتب أمين جلال فشدني عنوانه كثيراً حين وافق شيئاً في نفسي. فقرأته وهذه التدوينة هي خلاصة انطباعاتي والأفكار التي خرجت بها عن الكتاب بعد إنهائه (:
أولاً، لم يكن تركيز الكتاب على نقد موضوع الإنسان قديماً وحديثاً أو نقد موضوع “الإنسان البدائي” ومراحل تطوره، حيث كان تركيزه على (العرب والحضارة الغربية في مستهل القرن الواحد والعشرين) كما يتضح من عنوانه الثانوي. لكنه تطرق للموضوع باقتضاب في بداية الكتاب، مؤيداً رأيي الذي ذكرته آنفاً. وذكر قصة تخيلية جميلة للتوضيح، فقد تخيل الكاتب أن رجلاً عربياً من بغداد في القرن التاسع أو العاشر الميلادي (أي في أوج ازدهار المدينة) انتقل إلى زمننا الذي نعيشه الآن، ومشى في شوارعنا ونظر إلى التكنولوجيا الحديثة التي نستخدمها، ثم بيّن الكاتب بأن الرجل البغدادي القديم لم يعجبه جميع ما رآه، ولم يجد بأن البشرية تطورت تطوراً كلياً يشمل جميع جوانب الحياة، حيث وجد سلبياتا وعيوباً نراها تطوراً، لكن ضررها قد يفوق نفعها في الحقيقة! لا أريد أن أسرد القصة بالتفصيل، لكنني شعرت بأن القصة تحدثت بلساني ومنطقي، فلا علاقة للزمن في نظري بمدى تطور أو تخلف البشرية. أي أنه ربما يكون المجتمع في بغداد في القرن التاسع الميلادي قد عاش حياة أرقى من التي نعيشها الآن ونسميها تطوراً، وقِس على هذا المثال تاريخ البشرية جمعاء، فلا يمكن أن أجزم بأن أهل مصر قبل آلاف السنين كانوا يعيشون حياة بدائية لمجرد أنني جئت بعدهم، “وكأننا نرتقي درجات سلم” كما قال الكاتب.
ثانياً حاول الكاتب أن يحلل معنى كلمتي التقدم والتخلف، ويوضح بأن التقدم مصطلح نسبي يختلف مفهومه من ثقافة إلى أخرى، فما تراه تقدماً قد يراه غيرك تخلفاً. لذلك فإن مقاييس التقدم ليست ثابتة ولا يحق لأي ثقافة أن تفرض مقاييس التقدم على الوجه الذي تراه مناسباً أو الذي يخدم مصالحها. وقصد بالثقافة التي تحاول فرض مقاييسها الثقافة الغربية، والأمريكية على وجه التحديد.
في بداية قراءتي للكتاب شعرت بأن المؤلف ناقم على الحياة الرثة التي نعيشها، وينظر لحاظرنا نظرة تشاؤمية، ويتحدث بعواطفه. فيقع في تكبير وتعظيم الماضي في محاولته لتجنب تكبير الحاظر والمستقبل كما يفعل هؤلاء الذين ينتقدهم (وأنتقدهم أنا)، لكنني في النهاية وبغض النظر عن نظرته التشاؤمية تلك وجدتني معجبة بدقة نقده وصدقها، وتسلسل أفكاره ومنطقيتها، وإيجازه في الشرح وفهمه الجيد للموضوع الذي يتحدث عنه، وعقليته الفريدة الناقدة. حاول أمين جلال في كتابه أن يبرهن على انحطاط البشرية في مجالات عدة، أخلاقية، سياسية، اجتماعية، اقتصادية… وسوء الأحوال التي تعيشها البشرية باسم التطور والانفتاح. عادة لا أحب النظرات التشاؤمية البائسة، لكنني لا أرفضها عندما تكون حقيقة، كالتي أظهرها المؤلف في كتابه هذا.
النتيجة: هل أعجبني الكتاب؟ نعم أعجبني، كتاب مثير للتفكير. وأنصح بقراءته ..