الأرض الإسمنتية، النوافذ الخشبية، والماء الذي يُنقل بالدّلو.. ليست مظاهر لحياة بائسة تستدعي النظر إليها بعين الشفقة.. وتنتظر يد العون لإنقاذها من البؤس وشظف العيش ..
معايير الحياة الكريمة تتعرض للكثير من التنميط ، بسبب نظرتنا الاستعلائية لأشكال الحياة البسيطة ..
إذا كانت غاياتنا الأساسية التي نسعى دائماً إليها مثل السعادة، الأمن، التعلم، الحرية، وممارسة الدين… لا تتعارض مع تلك الحياة، وربما تتحقق كاملةً فيها، فما هي الغايات الأخرى التي نسعى إليها لكي نعتبر تلك الحياة حياةً بائسة ونسعى إلى تحسينها والوصول بها إلى مستوى معيشتنا الراقية؟
أكثر ما يثير سخريتي تارةً، وشفقتي تارة أخرى هي تلك البرامج التوعوية الهادفة التي تريك كيف يذهب الإنسان المُصلح الذي لديه تيكنولوجيا حديثة وآيفون إلى القرى البائسة التي فيها نوافذ خشبية وأرض إسمنتية ويجلس الناس فيها على الحصير، ويأكلون مجتمعين من صحن كبير، ثم يساعدهم… لا أعرف تحديداً فيم يساعدهم، ومن طلب منه المساعدة! المهم أنه يساعدهم ويمد لهم يد العون، ويمارس تواضعه قليلاً، ثم يجلس مواجهاً الكاميرا ويقول : “تعلمت الكثير من هذه التجربة الفريدة، وتعلمت أن أحمد الله على النعم التي تحيطني” .. فيديو مبطئ للمدينة بدون ألوان، موسيقى حزية في الخلفية، ثم يصفق الجميع لتواضعه، ويحصل البرنامج الهادف على الكثير من المشاهدات ..
ثم يتّعظ الجميع .. ويحمدون الله على النعم التي تحيطهم ..
هذا في نظري هو تعريف الاستعلاء، واستحماق العقول.. ومع شديد احترامي لنوايا هذه المساعي الهادفة لوعظ الناس والساعية دائماً إلى مد يد العون، فأنا أراها مغيّبة عن الحقيقة وعن الواقع.. لأن الاستعلاء ومعرفة الحقيقة نقيضان لا يتحققان معاً .. مادامت الماديات تحتل المكانة الأكبر في معاييرنا للحياة الكريمة فنحن مغيبون ، وفي حاجة ماسّة إلى من يمد لنا يد العون وينقذنا من شظف “التفكير” الذي نعانيه.
هذا وأصلح الله المصلحين.