سندريلا، وسالي رسومات لم أستمتع يوماً بمشاهدتها ككل الفتيات، ولم أعجب يوماً بشخصياتها الهزيلة. فسندريلا لم تفعل شيئاً يغير من وضعها إلى الأفضل. حين سُلبت ثروتها، وحُريتها، واكتفت الجميلة بالابتسامة والأمل… والحديث مع عصافيرها وفئرانها.
هذه الرسومات تُطبّع فكرة “الإنسان الخيِّر الضعيف، مسلوب الحقوق” وتصوره بمظهر جليل وكأنه البدر في عتمة الظلام. الذي يأتي في نهاية القصة وقد انتصر، فيعفو عن الجميع ويكرم الجميع بمن فيهم “الشرير”، ويساوي بين جلاده وبين البقية.
لم أعجب بهذه الرسومات ربما لأنني وعيت مبكراً بمدى حمق فكرة اقتران الخير بالضعف، لتكونان صفتين متلازمتين دائماً، بينما وجدت الواقع يقول بأن ردع الظالم، وتعنيف المستبد هي متطلبات أخلاقية ضرورية لحفظ توازن المجتمع لا تنفصل أبداً عن بقية الأخلاق التي نرتلها دائماً “العفو، الأخوة والتسامح…” فليس التسامح مع الظلم من الأخلاق في شيء.
وإذا نظرنا إلى مآلات الأمور، فإنه لا يختلف كثيراً الخيِّر الضعيف الأحمق عن الشرير القوي. كلاهما لا خير مرجو منه، ولولا وجود الأول، لما استطاع الثاني أن يظلم ويسود! الأمر الذي غاب عن كثير من هذه الرسومات المسيحية، التي يبدو بأنها مازالت تعمل بمبدأ التسامح المسيحي:
“أحبوا أعداءكم. باركوا لاعنيكم. أَحْسِنُوا إِلَى مُبغضيكُم. وَصلُّوا لأَجلِ الَّذينَ يُسيئونَ إِليكُم وَيطردونَكم“
في عالم من طراز عالم سندريلا، ربما لا يُلام المشاهد إذا اختار أن يكون شريراً، يفوز مرتين، مرة بمال الغبية سندريلا، ومرة أخرى بعفوها وإكرامها له! حيث لا يوجد سبب منطقي في الرسوم يدعو للتحلي بتلك الأخلاق المثالية! دعنا الآن من سندريلا فقد نالت من المقال ما يحزنها لعام، ولنلتفت إلى رسوم أخرى كانت المفضلة عندي منذ صغري “دروب ريمي”، والتي تروي قصةً أكثر مأساوية لطفلة في العصور المظلمة في فرنسا بالتحديد. “ريمي” بطلة القصة لم تكن أقل تأدباً وتخلقاً من الآنسة سندريلا، لكنها كانت أكثر ذكاءً وشهامةً، كانت الوحيدة التي وقفت في وجه “كاسبر” بكل قوة وعنف وسلمته للشرطة، وكان انتصارها في نهاية القصة نتيجة لاقتران الخير والقوة في شخصيتها، وهي نتيجة منطقية إذا ما قورنت بانتصار ساندريلا الذي كان بفعل الساحرة الطيبة “الجنيّة”.
كتابتي عن هذه الرسومات ليس أمراً هامشياً أبداً، فهذه الرسومات هي انعكاس للواقع، تستمد أحداثها منه، وتعيد للواقع الأحداث في أفكار تبثها في عقول الأطفال من جديد، فتصبح الرسومات غير منفكة عن المجتمع وعقليته. إن هذا ما أراه يومياً في حياتي وأنقده كثيراً، أراه بوضوح في مستويات واسعة سياسية اجتماعية وغيرها، ضعف الإنسان الخيّر يكاد يصبح بديهياً مُسلّماً فيه.
لو نظرنا إلى وجهة الإسلام في التعامل مع الظالم والمستبد، فإننا نجد نصوصاً متزنة تدعوا إلى العدل ورفع الظلم، وعدم الاستكانة والخضوع. منها الحديث النبوي: “المؤمن القوي خيرٌ وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍ خير” ومنها أيضاً قوله تعالى في كتابه: “وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ” ناهيك عن أمثلة قوة عمر بن الخطاب الشهيرة التي لا يسعني ذكرها، وهي في رأيي نموذج شبه مثالي للتعامل مع الظلم والجور والاعوجاج في المجتمع.
صورة اقتران الخير بالضعف مزعجة جداً، ترى فيها صوت الحق خافتاً “لجلالة قدره على مايبدو”، وترى فيها صوت الباطل عالياً
لكنني أومن بأن الخير غاية.. القوة وسيلته التي لابد منها..