تابعت في إجازتي هذه مسلسل عمر بن الخطاب ووجدته عملاً رائعاً يستحق التقدير، حتى تمنيت لو أن الحلقة الأخيرة لا تصل أبداً. كنت قد ترددت كثيراً قبل أن أشاهد المسلسل لما سمعته عنه من اتهامات وطعن، لكنني بعد أن شاهدته لم أجد أية مشكلة أو خطأ واضحاً في العمل..سأذكر هنا بعض النقاط التي لاحظتها بعد مشاهدتي للمسلسل حسب رأيي الشخصي..
أولاً لقي المسلسل الكثير من الاستنكار لسبب رئيسي هو تمثل الصحابة رضوان الله عليهم، وهنا أقول بأنه لا وجود لأي دليل صريح من الكتاب أو السنة يحرم أو يمنع تمثيل الصحابة بأي حال من الأحوال، ومن كان لديه أي دليل قاطع فليأت بما لديه. لكن المانع الوحيد في نظري، الذي جعل الناس يستنكرون تمثيل الصحابة هو إجلال الصحابة رضي الله عنهم وتصورهم بأحسن صورة، وفي هذه الحالة أعتقد بأن الجميع لديهم حرية اختيار عدم مشاهدة المسلسل ببساطة شديدة.
أيضا أستطيع القول بعد مشاهدتي للمسلسل بأن جميع المشاهد في المسلسل لائقة أخلاقياً، لا تنافي أخلاق المسلمين وليست خادشة للحياء. وحتى ظهور النساء الذي أنكره كثيرون كان ظهوراً محترماً جداً. وبديهياً نعرف جميعاً بأن النساء قديماً مسلمات كن أم غير مسلمات، كن يرتدين ملابس ساترة وعمائم تغطي رؤوسهن.. ومن استنكر ظهورهن بتلك الصورة فالأحرى به أن لا يخرج من منزله، ولا يتصفح الانترنت حتى لا يرى ماهو أكثر من ذلك!
بالنسبة للممثلين، اختيارهم، أداؤهم، شخصياتهم، أشكالهم.. أعتقد بأن هذه النقطة كانت التحدي الأكبر في العمل. لأن المشاهدين سينتظرون أية زلة أو عيب في الشخصية ليثوروا على المسلسل. لكنني أرى بأن المخرج “حاتم علي” وفق في اجتيازها بنجاح باهر، فقد أدى الممثلين “أغلبهم” أدوارهم بدقة، واحترافية رائعة، واستطاعوا تصوير الصحابة بصورة لائقة. المشكلة في نظري هي أن الناس يعتُبون على شخصيات الممثلين خارج المسلسل، ويفتشون في صورهم في المواقع فقط للطعن في المسلسل، ولا أرى أن هذا النقد منطقي أبداً. أنا هنا منطقي يقول بأنني لا دخل لي في حياة الممثل مادام قد أدى دوره بصورة جيدة في المسلسل، هل أتوقع من المخرج أن يحضر شخصا بحكمة ووقار أبو بكر الصديق مثلاً! أبداً لا يمهني الممثل، وكل من يعتقد بأن الممثل عليه أن يلتزم شخصيةً معينة خارج تمثيله فهو يحاول يائساً بأن يقرب بين شخصية الممثل والصحابي، أو بعبارة أخرى، لقد صدّق بأن هذا الممثل هو الصحابي نفسه! وحاشا الصحابي أن يكون مثل ذلك الممثل، لذلك لا أقارن بينهما ولا أهتم بشخصية الممثل أبداً، إلا في حالة واحدة فقط، يكون قد اشتهر فيها الممثل في أغلب مسلسلاته وأعماله وأخباره بسوء الخلق، أو ربما بمواقف مسيئة للإسلام مثلاً، هنا يكون في النفس شيء منه ولا أستسيغ رؤيته يؤدي دور شخص أحترمه. أما ماعدا هذا، فكل شيئ على ما يرام في نظري.
ثالثاً، لقد كنت مرتاحة نفسياً أثناء مشاهدتي للمسلسل لسببين، أولهما لمعرفتي بأن نص المسلسل مصحح من قبل علماء أحسبهم ثقات، من بينهم د. سلمان العودة، ود. عبد الوهاب الطريري. وثانيهما أنني أعرف سيرة الصحابي عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لا أدعي بأنني أعرفها كلها، لكن لدي فكرة عن الكثير من مواقفه، قصصه، أقواله وأخباره.
نحن كما نعلم متأخرون جدا في مجال الإنتاج الفني، أغلبية المسلسلات العربية الموجودة تتصف بسوء الإنتاج، والتصنع. وهو ماجعلني أكره متابعة المسلسلات، وأعتبرها مضيعة للوقت. لكن مسلسل عمر خلا، أو يكاد يخلو من تلك العيوب، كل تلك الصفات التي يكاد لا يخلو منها أي عمل عربي. لا نجدها في أعمال حاتم علي مثل مسلسل صلاح الدين الأيوبي، ومسلسل التغريبة التغريبة الفلسطينية. واللذان كانا في نظري أحد الأعمال الناجحة “النادرة” في ساحة الإنتاج السينيمائي العربي “بغض النظر عن الأعمال القديمة”. ابتعدت أعماله عن الأحداث المتكلفة، الماكياج المتكلف، القصص الرومانسية المتكلفة والمصطنعة، والتي في العادة تهدف للترويج للمسلسل فقط. في مسلسل التغريبة مثلا سلط الضوء على قصة عاطفية مؤلمة كانت بين “حسن” وفتاة من القرية كما أذكر. القصة كانت عفوية، مأخوذة من الواقع، لا مبالغة ولا إهمال للجانب العاطفي فيها. ذلك ماجعلني أشاهد المسلسل عدة مرات ولم أمل منه. أيضاً جودة أغلبية المسلسلات العربية سيئة، على عكس ذلك فقد بُذل جهد كبير في مسلسل عمر لإخراجه بأفضل صورة، أعتقد بأن حاتم علي أدرك جيداً التحدي الذي خاضه، وعرف مدى صعوبة تمثيل الصحابة رضي الله عنهم، فأبدع في إنتاجه وبذل جهداً لكي لا يترك مجالاً لكثرة الانتقاد.
أعتقد بأن تمثيل شخصية عمر بن الخطاب بالذات كان ضرورياً لأسباب كثيرة منها. كثرة الأفكار الخاطئة عن شخصيته رضي الله عنه، لست أعني الأفكار المنتشرة في المذهب الشيعي فحسب، بل وحتى الأفكار المنتشرة في المجتمع السني، حيث يركز دائماً في المناهج الدراسية على شدته وغلضته وبطشه، ويهمل جانبه الحكيم ورقة قلبه. والصورة الأولى التي تظهر غالباً عن عمر قبل إسلامه هي صورة ضربه لأخته فاطمة، عدائه للإسلام، وتضييقه على المسلمين. لكن ما غاب عن الكثيرين (وأنا منهم) هي حكمة عمر قبل إسلامه، فقد كان آخر من وافق على قتال المسلمين، ولم يكن يستهزء بالعبيد، ولم يكن بذيء الكلام، ولا ظالماً، ولا خائناً، كان كريم الأخلاق في قومه، ولم يعادي الرسول صلى الله عليه وسلم إلا لما رأى من تمرد العبيد على أسيادهم، وعداء المسلمين لأقاربهم من الكفار، وتفرق الجماعة بين مؤيد ومعارض، على عكس أغلبية الكفار الذين عارضوه لأسباب طائفية وعرقية. أرى أن المسلسل صحح تلك المفاهيم الخاطئة بطريقة شيقة لتأثر في قلوب المشاهدين. فكل تلك الأحداث والتفاصيل لم تكن لتعرف بتلك الدقة لولا تصويرها بطريقة فنية احترافية تواكب العصر، فلا أحد يلتفت الآن إلى المكتبات مع وجود أفلام ذات دقة عالية وأجهزة ممتعة تلفت نظر عامة الناس عن المطالعة وقراءة الحقيقية.
مسلسل عمر بن الخطاب أيقظ في نفوس المشاهدين مشاعر كانت قد وئدت منذ زمن بعيد، أجواء العدل والتسامح والتنظيم والفتوحات، كل تلك الأحداث اندثرت ونسيت في الكتب البليغة التي لا يقرأها عامة الناس. وقد قلت لأمي أثناء مشاهدتي للمسلسل ” ربما يكون لهذا المسلسل يد في إثارة ثورات الربيع العربي” حيث لامس مشاعر الناس، وجعل الجميع يقارن بينما نعيشه الآن وبينما يجب أن تكون عليه الدولة الإسلامية في الحقيقة، فروق شاسعة بين مبادئ الأحكام القضائية والفقهية التي أطلقت في زمن خلافة عمر وأبو بكر رضي الله عنهما، والأهداف التي عاشوا للوصول إليها، والتي قامت الدولة الإسلامية أساساً لتحققها، وبين واقعنا. لذلك أعتقد بأن المسلسل هذا أتى في وقته المناسب، حيث أننا بحاجة في ظل ما نشهده من تغيرات، لتذكر القوانين العادلة التي أرساها عمر بن الخطاب حين وضع حجر الأساس للدولة الإسلامية.
♦♦♦
لقد وُلدت في أسرة ناقدة لأبعد الحدود، ومن كثره نقدنا “إيجابياً وسلبياً” لجميع جوانب المسلسل من ملابس، شخصيات، أحداث، بيئة تمثيل، تسلسل، نبرة صوت،… قلت لأمي لو علم حاتم علي بأنه سيكون من مشاهدي المسلسل أشخاص ناقدون مثلنا لاعتزل الإخراج، أو ربما لاستخدمنا كلجنة تحكيم لنقد المسلسل قبل نشره، لذلك فأنا لا أعتقد بأن المسلسل يخلو تماماً من الأخطاء، لكن إيجابياته طغت على سلبياته، التي لن أذكر منها إلا اثنان. أولاً، تصوير شخصية حمزة لم يكن في المستوى الذي انتظرته، فبعد الشخصية والهيبة التي أظهرها “عبد الله غيث ” واعتدنا عليها في فيلم الرسالة، أُظهر حمزة بشخصية دون المستوى، علاوة على ذلك دبلجة صوت الممثل “محمد مفتاح” الذي أدى دور حمزة كانت مفاجأةً! النقطة الثانية هي بنية ممثل عمر بن الخطاب _رضي الله عنه_ الضعيفة، صحيح أنه يتخفى تحت عباءة واسعة لا تظهر ضعف بنيته، لكن مع ذلك يبدو الممثل ضعيفاً على عكس ما نعرفه من قوة عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
ختاماً، أتمنى أن يشاهد المسلسل كل من يرغب في انتقاده، لأنه ليس من العدل نقد شيء لا نعرفه. فقد كنت واحدة من الذين لم يستسيغوا تمثيل الصحابة لكنني بعد أن شاهدته لم أجد غير تفسير واحد للآراء والانتقادات السلبية اللاّذعة التي وجّهت إلى المسلسل، وهو أن الناس تكره كل جديد وتحاربه، ليس لعيب فيه، ولكن لأنه مبتَدع، ليس له مثيل سابق. لكن الحكمة هي كما قال د. سلمان العودة ” من الشجاعة أن يفتح الفقيه الأبواب القابلة للفتح بدل أن ينتظر أن يكسرها الآخرون”. وفي الحقيقة تمنيت لو لم تسبق قناة mbc لإنتاج مثل هذا العمل، لكنني هذه المرة وجدت في المستنقع ما لم أجد في البحر!
هذه مقاطع من المسلسل../ نشيد سلاما يا عمر الفاروق للعفاسي
http://www.youtube.com/watch?v=GUnHN–oyF8