حُكمنا على أيّ أمر لابد بأن يكون له مصدر أو مرجِع تُستقى منه الأحكام.. ويقول الواقع بأن المصادر التي نستقي الأحكام الاجتماعية التي نطلقها تكاد لا تخرج عن ثلاث، قانون الدولة، الشريعة الدينية، والعُرف. بالإضافة إلى عوامل هامشية مثل العلوم ..
موضوعي هنا متعلق بالمصدر الثالث للأحكام “العُرف”. وسؤالي الذي تحوم حوله الكثير من القضايا الاجتماعية ولكن لا تمسه بشكل مباشر هو “إلى أيّ مدى يجب اعتبار العرف كمصدر لأحكامنا الاجتماعية؟”
يذهب حزب إلى رفض العرف وعدم اعتباره جملة وتفصيلاً، إما انطلاقاً من نظرة فلسفية لا واقعية تحكم على الأمور بتجريد كُلّي من العوامل المجتمعية. وهي نظرة منطقية لا واقعية ترى بأن الأعراف تكوين غير منزّه عن الخطأ، وليس له سُلطة تجعله إماماً في الناس.. وهناك من يرفض الاحتكام للعرف بسبب ردة فعل عدوانية “ساذجة” ضد المجتمع وعادة ماتكون الثانية غير منطقية من الأساس، خذ مثالاً:
يقول أحدهم “إن اتباع العادات والتقاليد يعني أن أناساً عاشوا مئات السنين في الماضي يعرفون مصلحتك أكثر منك”. وهذا فهم خاطئ لأن العرف تراكمي لم يرسمه جدك الأول في ميثاق ثابت، وإنما هي خبرات تراكمية ساهم جدك الأول وصولاً إلى والدك في رسمه، وتشارك أنت في صياغته الآن في عام ٢٠١٦ وهذا يعني بأن أحكام العرف متغيّرة تبعاً للواقع والزمان والمكان.
حزب آخر معاكس غنيّ عن التعريف يتّبع العرف وربما لم يفكر في نقضه يوماً، وهذا غالباً حزب يعيش سعيداً منغلقاً في مجتمعه لا يُعاني نقد أحكامه وأفكاره وإنما تقدم له مطبوخة جاهزة.
لا أكتب هذا المقال لموالاة أو معارضة أحد الرأيين السابقين، وإنما أردت قول التالي:
استقاء الأحكام المجتمعية من القانون والشريعة مُتّفق عليه (*). يبقى اختلافنا في مدى اعتبار العرف، وهنا أعتقد بأن الاحتكام إلى العُرف باطل من ناحية مبدئيّة لأن مصدره غير منزه وليس له أي سلطة، ولا حاجة إليه أيضاً لأنه لدينا في المصدرين الآخرين ما يكفي لتغطية جميع الأحكام بما فيها من مستجدّات عصرية. لكن ومن ناحية أخرى، ما يميز العرف هو أنه يتدخل في تفصيل أحكام لعادات مجتمعية لا يطالها المصدران السابقان، لذلك فإن عدم اعتبار العرف في الأحكام غير منطقي، لأن العرف نمط حياة متكامل، ورفض الفرد له في جوانب يراها ضد مصلحته، ثم العمل به جوانب حياتية أخرى لصالحه يعتبر تناقضاً.(**)
(*) لا أعني هنا بأن أحكام القانون كلها عادلة أو منزهة عن الخطأ، ولكن القصد هو الاتفاق عليها في الحكم على الأمور المجتمعية، أي أنها مركز الاحتكام عند اختلاف الرأي، ووجود قصور في أحكام القانون يتطلب تغييره ولكنه لا ينزع عن القانون اعتباره أو اعتماده في استقاء الأحكام.
(**) لا أعني هنا بأن الاحتكام للعرف يجب أن يكون لجميع فروضه بدون نقدٍ لأيٍ منها أو أن لا يكون جملة وتفصيلاً، ولكنني أتحدث عن الاحتكام إليه كمصدر للأحكام تارة، ثم رفضه تارة أخرى