في أضيق تنظيمات المجتمع وفي أوسعها، ابتداءً من الأسرة الصغيرة وانتهاء إلى الدولة الكبيرة، تتشابه أشكال الفساد الإداري والأخلاقي رغم اختلاف تأثيراتها ونطاقاتها. حين أسمع أباً يعقّب على سرقة ابنه الصغير فيقول بلا مبالاة “خليه يتعلم يعيش!” أعرف جيداً بأن مثل هذا النموذج إذا وضع في السلطة فإنه سوف يعيث فيها فساداً وسرقةً ورشوة …إلخ، وحين أرى المدرّس في مدرسته يستغل الموارد المتاحة له للتعليم مثل الطابعات والأوراق خارج نطاقها المدرسي ولأغراضه الشخصية، فإنني أدرك بأنه لو وُضع في منصب أكبر لما قلّت سرقته ونهبه لأموال الدولة على ما نراه من سرقة المسؤولين الذين نطالبهم بالتنحي عن مناصبهم ونطالب بمحاكمتهم وتعزيرهم.
حتى وإن بدت لنا أفعال العامة من الناس صغيرة في مواقفها وحالاتها فأنا أعتقد بأن سبب صغرها هو عدم توفر فرص أكبر للفساد. يقول أحد الفلاسفة بأن كثير منا يعتقد بأنه بريء فقط لأن فرصة الإجرام لم تتح له. وأقول هنا مؤيدة لقوله بأن كثير من أبناء الشعب لا ينهبون أموال الدولة ليس لورع وصلاح فيهم وإنما لأن فرصة النهب لم تتح لهم كما أتيحت لغيرهم من المسؤولين.
وخلاصة ما أريد أن أقوله هو أنني أدركت فعلاً بأنه “كيفما تكونوا يولى عليكم” ، وبأن بداية تغيير الفساد الحكومي ليس التظاهر وإسقاط أنظمة الفساد لإحلال أنظمة فساد جديدة تنتظر الفرصة المواتية لتنهب هي الأخرى ما تستطيع. ما الفائدة من إسقاط نظام إذا لم نجد من يحل محله سوى أحد أمثال ذلك الذي يُثني على سرقة ابنه الصغير! إنما بداية التغيير الفعلي هو تغيير ما في النفوس من فساد، وتغيير ما في الأسر الصغيرة بين الآباء والأطفال. فإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.