مذ فتحت عيناي على هذه الدنيا وأنا أشاهد حملات الحجاب والعفة والاحتشام تملأ الأفق الرحب
ومازلت أراها وأسمعها .. تتكرر بالخطابات والشعارات ذاتها التي صيغت في عهد العلامة ابن باز رحمه الله
دُعيت لأكثر من مرة للمشاركة في حملات توعوية من هذا القبيل، لكنني رفضت المشاركة رفضاً صريحاً
لا لشيء سوى لغيرتي على الاحتشام أكثر مِن غيرة بعض أولئك الذين يدعونها
كان رفضي لعدة أسباب أهمها، كون هذه الحملات التوعوية لا تجدي نفعاً “لا تسمن ولا تغني من جوع”
نراها في التلفاز ومواقع التواصل والشوارع بالشعارات ذاتها والطريقة ذاتها كل ما جلسنا نتصفح العالم.
وأعجب لتسارع انحسار نطاق الحجاب والاحتشام، ذلك رغم تزايد وتيرة الحملات التوعوية المنادية به
هنا إذاً علينا الوقوف وإعادة النظر في حملاتنا وشعاراتنا..
أكاد أجزم بأنه لا تكاد توجد فتاة مسلمة لا تعرف بأن الاحتشام فرض وواجب. لذلك فإن إقامتنا لحملات ضخمة لإخبارها بشيء تعرفه مسبقاً لن (ولم) تجدي أي نفع مطلقاً. فما بالكم إذا كانت شعارات الاحتشام مملولة و مكرورة من عهد الخلافات!
قبل الشروع في أي عمل إصلاحي كان، على القائم به أن يضع هدفا واضحاً لعمله الإرشادي. وفي حالتنا هذه، ربما أغلبية الحملات لا ينقصها الهـدف الواضح “زيادة الاحتشام في المجتمع”. لكن المشكلة تكمن في الخطوة التي تليها ، ألا وهي آلية الوصول إلى الهـدف: هل ستؤدي الحملة إلى الهدف؟ غالباً ما تكون الإجابة باعتراف القائمين على الحملات هي (لا)
السؤال الكبير: إذا لماذا تقوم الحملة؟
إجابة القائمين عليها للأسف: (و قد سألت كثيراً منهم بنفسي)
” نسوي الي علينا”
“اذا استفادت فتاة واحدة سأكون حققت هدفي”
“نحن نعلمهم وهم يختاروا”
وهي اعترافات صريحة بأن الحملة مع احترامي فاشلة ولن تؤدي الى الهدف!!
وفي حالة تضارب الهـدف والآلية، وجب بالضرورة تغيير أحدهما، وإلا فإن المصلحين والقائمين على مثل هذه المشاريع التي لا تؤدي إلى هدف يكذبون على أنفسهم. فإما أن يغيرو ا العـدف ليصبح “تحقيق تبرئة الذمة” .. “تحقيق مظاهر وشهادات” .. أو أن تتغير الآلية كلها بحيث توصل إلى الهـدف المنشود الذي يدّعون “زيادة الاحتشام وتوعية المجتمع”.
المشكلة الثانية والأكبر هي الأخطاء الفادحة التي تقع فيها هذه الحملات، من استخدام لمغالطات فقهية ومغالطات منطقية، تسيئ لمفهوم الاحتشام ذاته، ولتقريب الصورة، أذكر من المغالطات الفقهية: العبارات التي تُلقى بدون أدلة فقهية وهي كثيرة لا تُعد “مثل، اكشفي من جسدك بقدر ماتتحملين من نار جهنم” و “كل شعرة بجمرة” و “المرأة كلها عورة” وهي ادعاءات فقهية لا أصل لها. ومن المغالطات المنطقية: تشبيه الفتاة بقطعة الحلوى، والتفاحة، والبرتقالة، والطماطمة وبسوق الخضار … وأشياء أخرى، ولا يخفى على عاقل مدى عدم منطقية هذه التشبيهات.
وفي الحقيقة، أنا أعتقد بأن الحجاب هو نتيجة لعوامل كثيرة، منها التنشئة الصالحة، التفتح الفكري، الفهم الديني الصحيح، الوازع الديني …إلخ. فإن وجدنا مشكلة في النتيجة الظاهرة (الحجاب)، فإن علينا آن ذاك التوجه لإصلاح الأسباب سابقة الذكر، حيث أن إصلاح النتيجة لن يؤتي ثمرة! وإن بدى لنا بأنه مثمر “أعني تغيير النتيجة فقط”، فإن سبب ذلك هو اهتمامنا بالمظاهر الخارجية بطبيعتنا القاصرة، لأنه لا يسعنا اختبار البواطن للكشف عن المشكلة الحقيقية التي تحتاج إلى العلاج، فنكتفي بتغيير النتيجة.
ملاحظة أخيرة أعتب فيها على حملات الاحتشام وهي التركيز الشديد على احتشام المرأة على حسـاب احتشام الرجال.. أجل سيداتي وسادتي! فالمسلم ذكراً كان أم أنثى فُرض عليه الاحتشام، في ملبسه وممشاه ومنطوقه … لكن من الواضح أن حملات الاحتشام تغض طرفها عن عنصر رئيسي من المجتمع المسلم، وتهضم حقه في تلقي النصح والإرشاد، مما خلق تناقضات وتفاوتات عجيبة في مظهر كل من المرأة والرجل المسلمَيْن. وقد يعجب البعض إن قلت بأن الرجل أولى من المرأة بالتوعية عن الاحتشام، لأن عدد الرجال الذين لا يعرفون الشروط الواجب التزامها في الملبس أكبر من عدد النساء اللائي لا تعرفن شروط الحجاب. لذلك فإني أرى بأن حملات الاحتشام عليها أن تشمل المجتمع كله بالنصح والإرشاد ولا تركز على جزء منه.
ختاماً، تعارضٌ في الأهداف والآليات، مغالطاتٌ فقهية ومنطقية. محاولاتٌ سطحية لإصلاح النتائج المظهرية، وتحيزٌ الحملات التوعوية! كلها أخطاء أراها مبررات كافية لموقفي السلبي، جعلتني أتجنب التعاون أو المشاركة أو الترويج لمثل هذه الحملات التوعوية غير المجدية.
هذا والله أعلم