من عادة المجتمعات أنها تفرض الكثير من القوانين التي تحارب التغيير باسم “العرف”، تلك القوانين التي تُفرض على أفراد المجتمع هي قوانين صارمة جداً غير مكتوبة، لم يقررها أحد ولم تسنّها جهه مختصة ! وإنما حصلت نتيجة تجارب من قبلهم وخبراتهم في زمنهم. لكن ليست كل تجارب السابقين تنطبق على اللاحقين حالهم، زمنهم أو نمط حياتهم.
نظرية القرود الخمسة مثال جيد للقوانين الوهمية التي يفرضها المجتمع بغير وعي منه بالأسباب. لكنها صارمة جدا ولا يستطيع أحد أن يتجاوزها. هذه النظرية تعتبر نظريةً إجتماعيةً تنطبق على مجتمعاتنا الإنسانية كما تنطبق على القردة. ملخصها أن مجموعة من خمسة قردة وضعت في قفص علق في أعلاه حزمة موز يمتد إليها سلم من الأسفل. وبطريقة فطرية يحاول قرد أن يصعد السلم للحصول على الموز لكن جميع القردة ترش بماء بارد يرعبهم، مما يدفعهم لمنعه من التسلق. ثم يحاول قرد آخر أن يفعل الشيء ذاته، فيرش القردة بالماء البارد. بعد تكرر هذه العملية لأكثر من مرة أصبح القردة يخافون من تسلق السلم ويمنعون كل من حاول فعل ذلك. هنا يأتي الجزئ الثاني من التجربة حيث يغير قرد واحد من القردة بقرد جديد. فيذهب القرد الجديد إلى السلم ليحصل على الموز لكن القردة تمنعه بشدة وتضربه، وبعد تكرار العملية سيمتنع القرد الجديد من الصعود. ثم يغير قرد آخر من المجموعة بقرد جديد فيحاول الصعود هو الآخر لينهال عليه القردة الآخرون بالضرب ومن بينهم القرد الذي أحضر قبله وهو لا يعرف لماذا يمنع الصعود! وبعد فترة يتغير الثلاثة قردة القديمة الباقية واحدا تلو الآخر. حتى تتغير جميع القردة التي عاصرت حادثة رش الماء البارد. لكن الغريب أن الجيل الجديد من القردة يخاف من صعود السلم، ويضربون كل من حاول فعل ذلك.. لماذا! لا أحد منهم يعرف السبب، ولا أحد منهم يعرف إن كانوا سيرشون بالماء البارد أم لا.. لكنهم متمسكون بهذا القانون تمسكا قويا.
المجتمع الإنساني يفعل الشيء ذاته في حياته بدون وعي منه. فهو لا يستوعب الكثير من الأشياء لأنه لم يختبرها من قبل! ويقمع الكثير من أفكار التغيير بسبب جهله بها، ولسان حاله يقول “ما سمعنا بهذا في آباءنا الأولين”. متناسياً فرق الزمن بنه وبين من وضع هذا القانون لأول مرة. وهكذا تعمد الكثير من الشعوب لقمع نفسها بنفسها. بوضع مثل هذه القوانين الوهمية التي لا أصل لها. فتكون مجموعة من الأفكار يعتنقها الخائفون من الإبداع _كما أطلق عليهم سعيد حارب في كتابه بيكاسو وستاربكس_ ويؤمنون بها، ويدافعون عنها بشراسة. لا لأنها الصواب، ولكن لأنها الفكرة الأولى التي يتلقونها. فتلاقي تلك الفكرة صداً عالياً في نفوسهم ويتفانون في الدفاع عنها بغير وعي.
الخريطة المقلوبة التي رسمها الإدريسي “مقلوبة” لا محالة ! لأن الخريطة التي نستخدمها الآن معاكسة لها! لكن الكرة الأرضية مستديرة سابحة في الفضاء هذا يعني أنها ليس لها إتجاه معين، وبما أن الإدريسي هو أول من رسم الخريطة فخريطته أولى بأن تكون معتدلة وليست مقلوبة! لكنني سأكون مجنونةً إن رفضت حقيقة أن خريطة الإدريسي مقلوبة.. لأنها مقلوبة بالنسبة لسبعة ملايير إنسان في العالم.
الغريب أن هذه القوانين التي تطلقها المجتمعات أو “العرف” أشد تأثيراً، وأشد هيمنةً على الأفراد من قوانين الشرع، ومن قوانين الدولة نفسها! وإن لم تتخلص المجتمعات من هذا الفكر الجامد فستصل للحالة التي وصلت لها أوروبا زمن حكم الكنيسة في العصور الوسطى! حيث حاربت أفكار التغيير وألغت تماماً العقل البشري ومثالنا الشهير في ذلك قصة قاليليو، وكيف حوربت أفكاره لمجرد أنها تخالف العرف وقوانين الكنيسة! وحجتهم التي لا حجة سواها أنهم ما سمعوا بهذا في آباءهم الأولين. ورغم أنها حجة بالية وواهية، مازالت هي المسيطرة. قمع المجتمعات لأفكار التجديد يودي بها إلى القاع. لأن المجتمع إذا لم يجرب و يتغير هذا يعني أنه لن يتعلم، ومن لم يتعلم لن يتقدم، ومن لا يتقدم فسيتأخر لا محالة. ويتناسى المجتمع أن التغيير لابد منه، فهو قادم بمرور الزمن لا مفر منه. وعلى المجتمعات أن توجهه توجيهاً سلمياً يتوافق مع العرف لا أن تهرب منه أو تحاربه! فهذا لن يجدي نفعا بل سيسبب الكثير من الفوضى في المجتمع نتيجة اصطدام أفكار التغيير والإبداع بأفكار العُرف المتحفضة الجامدة.
هناك ما هو أخطر من القمع المجتمعي للإبداع ألا وهو قمع الفرد لذاته ! وروتينية أفكاره.
يستيقض في الصباح الغير باكر كعادته يسرح شعره تسريحته المعتادة ويلبس قميصاً مخططاً كالعادة ويذهب إلى المقهى المعتاد، ليجلس في ذات الكرسي الذي يجلس فيه كل مرة، ويحتسي القهوة ذاتها، يتصفح الموقع ذاته ككل مرة، ويتحدث إلى الناس ذاتهم في المواضيع ذاتها، ويمشي في الطريق ذاتها ليعود إلى المنزل!
في كثير من الأحيان يعمد الإنسان إلى محاربة كل ما هو جديد قد يطرأ على حياته، فهو مقتنع بأن التجديد يعكر صفوه! صانعاً بذلك فقّاعةً وهميةً حوله، تعزله عن الإبداع والإستمتاع بالحياة..
لا تجرب أن تطلب من هذا الشخص أن يشرب كابتشينو بدل قهوته المعتادة، أو أن يسلك طريقاً جديداً أقصر من التي اعتاد أن يسلكه، أو أن يتصفح الجريدة عبر الآيباد بدل الجريدة الوريقة. فهو غالباً لا يستجيب لمثل هذه المقترحات، لأنه لم يعتد عليها. يعتقد بأنه بأمان داخل فقاعته الروتينية.
خبرات الحياة تتكون نتيجة التجارب. والتجارب هي عمر آخر للإنسان، فمن لم يخضها فقد أهدر الكثير من عمره. يعتقد الخائف من الإبداع أن خوض التجارب يبوء بالفشل غالباً. لكنه لا يعرف أن الفشل هو بداية النجاح. وكما يقول الدكتور إبراهيم الفقي _رحمه الله_: ” لا تقلق من الفشل! ولكن اقلق من الفرص التي تضيع منك حين لا تحاول أن تجرب” .
الخوف يجب أن يكون من تضييع الفرص وليس من الفشل. فالإنسان عبارة عن خلاصة تجاربه التي خاضها في حياته. والفشل هو الذي يصنع شخصيته.
والحياة متغيرة عبر الزمن، يجب مجاراتها، والتوفيق بين التغييرات الطارئة في الحياة وبين العرف والقوانين المجتمعية.
سمية دداش