واحد مقابل خمسة

من منطلق قدسية الحياة نحن نسعى دائماً إلى حفظ أكبر عدد ممكن من أرواح البشر، وتبعاً لهذه القاعدة العامة يوجد لعبة شهيرة تفترض قصتين في ظروف مثالية تضع المستمع حيال خيارين لا ثالث لهما بهدف تحليل منطقه. حيث تفترض في القصة الأولى نفسك مكان سائق فقد السيطرة على سيارته المتجهة إلى خمسة أشخاص على وشك أن تقتلهم جميعاً، ويوجد طريق إلى اليمين يقف فيه شخص واحد. وليس لديك سوى خيارين إما أن تتركها تسير في اتجاهها فتقتل الخمسة، أو أن تحرك مقود السيارة إلى اليمين حيث يوجد الشخص الواحد فتقتله بدل الخمسة ..

وهنا تُطرح القصة الثانية حيث تضع نفسك في مكان شخص واقف في أعلى الجسر بجانب شخص سمين وتشاهد أسفل الجسر سيارة فقدت السيطرة متجهة إلى خمسة أشخاص على وشك أن تقتلهم، ولديك هنا خيارين أيضاً، إما أن تترك الحال على حاله لتقتل الخمسة، أو أن ترمي الشخص السمين الواقف بجانبك من الجسر ليعيق وصول السيارة إلى الخمسة الآخرين وينقذهم!

إذا لم تكن قد سمعت بالقصتين من قبل، أنصح بأن تتمهل وتفكر في اختياراتك قبل استئناف القراءة!

في القصة الأولى يختار الأغلبية العظمى من الناس خيار تحريك المقود إلى اليمين لقتل شخص واحد بدل الخمسة! أما في القصة الثانية يختار الأغلبية العظمى من الناس أن لا يقوموا بدفع الرجل السمين من الجسر لإنقاذ الخمسة..! وربما يكون قارئ هذا المقال قد فعل ذلك، كما فعلت أنا أيضاً..

وجدير بالذكر هنا بأنه لا صحة أو خطأ في اختياراتنا أياً كانت، لأن القصة مجرد انعكاس لمنطقنا. وفي بداية الأمر قد يبدو لنا أن منطقنا تغير بين الحالتين، حيث اخترنا في المثال الأول افتداء الخمسة بواحد، لكننا لم نفعل ذلك في المثال الثاني.. لكن لماذا؟
موافقة الأغلبية على هاذين الخيارين لابد بأن يكون لها سبب منطقي، لذلك فقد جلست مطولاً مع نفسي متجردة من أي مؤثّر قد يؤثّر على تحليلي للحالتين، لأجد مجموعة من الأسباب _أو الاختلافات بين القصتين_ جعلت اختيارنا ومنطقنا يبدوان مختلفين بيد أنهما ليسا كذلك في الحقيقة .. وهذا ما وصلت إليه:

أولاً، في الحالة الأولى كان المتصرف جزءً من الحدث عليه أن يتصرف لحفظ أكبر عدد من الأرواح، فهو الفاعل والقاتل في كلا الخيارين، لكن في الحالة الثانية، فإن المتصرف فاعل قاتل في الخيار الثاني _أي خيار رمي الشخص من الجسر_، وغير فاعل وغير قاتل في الخيار الأول _أي عدم إحداث تغيير_ .. لذلك فإن أحداً لن يتردد في اختيار أن يكون غير قاتل.

ثانياً: إننا نميل في جميع أفعالنا لإرضاء الناس، أو بعبارة أخرى، نحن نأخذ نظرة الناس إلينا وتبريرنا لهم في القتل (أو الفعل) بعين الاعتبار في جميع الأحوال، لذلك فإننا في القصة الأولى اخترنا أن نقتل شخصاً، لأن تبريرنا لأهله بأننا فقدنا السيطرة على السيارة هو تبرير مجدٍ إلى حد ما. لكن لا مبرر سيكون مرضياً أو كافياً لأهل الرجل السمين الذي أُلقي من الجسر وإن كانت النتيجة متشابة في القصتين. سيقول لي أحد بأن القصتين مثاليتين ولا يوجد فيهما مالم يذكر في القصة، أي علينا عدم أخذ أي عامل في الاعتبار مادام لم يذكر في القصة، لكن هنا أقول بأن الخيارات مثالية، لكن التفكير الذي يؤدي إلى الاختيار لا يمكن أن يكون مثالياً (مثاليّ: لا تؤثر فيه جميع العوامل المؤثرة في الموقف) مادام التفكير ينطلق من تصوّر واقعي للحدث..

ثالثاً، درجة عدوانية الفعل المباشر _الذي يقوم به الفاعل بيديه_ تختلف جداً بين القصتين، حيث في الحالة الأولى اختيار السائق يتحدد بفعل بسيط لا يأخذ وقتاً طويلاً لتنفيذه وهو تحريك مقود السيارة إلى اليمين، بينما الفعل الثاني صعب التنفيذ، مما يزيد من عدوانيته، أي أن رفع شخص ودفعه من الجسر أمر عدواني جداً مقارنة بتحريك مقود سيارة! بغض النظر عن النتيجة المتشابهة، فإن الاختلاف في العمل المباشر الذي يلمسه الفاعل يؤثر في الاختيار، مما جعلنا لا نجد غضاضة في افتداء الخمسة بواحد في الحالة الأولى، وجعلنا في الحالة الثانية نجد غضاضة في قتل الشخص لافتداء الخمسة.

رابعاً، من نقاط الاختلاف المعقدة والتي قد لا تبدو مهمة لكنها في نظري كذلك، هو أن في الحالة الأولى تحركت السيارة إلى مكان وجود الشخص الواحد وهو ثابت في مكانه لم يتغير، وتبرير هذه الحالة هو أن السيارة الفاقدة للسيطرة وصلت إلى مكان الشخص وقتلته، والقاتل هنا غير مسيطر على الوضع.. بينما في الحالة الثانية فإن الذي تغير مكانه هو الشخص (الفِداء)، أي أن مكان الشخص تغير ليوضع في مكان وجود السيارة عمداً، وليس لذلك تبرير لأن السيارة لم تكن لتصل إليه لولا تغيير مكانه (أو رميه) إلى مكان وجودها.

أخيراً، يسرني استقبال وجهات النظر لتفسير القصة في خانة التعليقات أسفل المقال (:

أضف تعليق