مقال في العبودية اللازمة

الإنسان عبد، وذلك يقتضي أن يكون عابداً في جميع أحواله وتوجهاته. وهنا نجد علاقة وطيدة في العبودية، تتلخص في عابد ومعبود. أما العابد فهو نحن، وأما المعبود فهو المـرجع الذي نعود إليه، جهة الاطمئنان، ومصدر التشريع، ومقياس الصحة والخطأ والخير والشر، هو نقطة الانطلاق، وهو الوجهة، وهو الغاية في كل أفعال العابد..

لابد بأن الإنسان عابد، ولا يمكن له أن يكون غير ذلك. لأنه في حاجة ماسّة إلى مرجع يستند إليه، ويؤمن به، ويسعى في كل أعماله لإرضائه. إن لم يهتدِ الإنسان إلى أن مرجع كل شيء هو الله وحده، فسوف يبحث عن مراجع أخرى يعبدها. بالتأكيد لن تكون تلك المراجع كاملة ككمال الله وحاشاه تعالى أن تكون مقارنة هنا. ولكن تلك المراجع بالتأكيد معتبرة عند من ضل من العبيد. أما أن يكون الإنسان غير عابد مكتفٍ بذاته فهذا خارج عن الطبيعة، لأن ذلك يعني بأن الإنسان سيرتقي إلى مرتبة الكمال، وأن يكون هو المرجع المعبود ذاته، فيصبح العابد معبوداً وهذا باطل لا محالة. أما أن يغيب العابد تماماً عن أي مرجعٍ معبودٍ فهذا أيضاً باطل، لأن ذلك سيضعه في شك وريبة تودي به إلى الجنون أو ربما إلى الانتحار، وهو ما يحدث كثيراً ..

عندما أحكمت الكنيسة قبضتها على المجتمع الأوروبي في القرون المظلمة كما يحبّون تسميتها، وضيّقت على الإنسان تضييقاً أفقدها مكانتها كمرجع لدى الأوروبيّين، نبذها كثيرون وتركوا دينهم، حتّى أن بعضهم أنكر الخلق والخالق جملة وتفصيلاً. لكن هل يعني هذا أنهم لم يؤمنوا بشيء، أو أنهم استغنوا عن العبادة! كلّا بالتّأكيد، حيث أن من ألحد حينها وجد نفسه مضطرّاً إلى إيجاد مرجع بديل عن الكنيسة. اضطراره ذلك يؤكّد عبوديته التّي أتحدث عنها. ماذا وجد الملحد حينها؟ لقد وجد العلم. فآمن بكل ما يراه تحت المجهر ولا شيء سوى ما تحت المجهر. هنا إذا يتّضح بأن العلم كان مرجعاً، وأن التوجه إليه كان عبادةً حسب المفهوم الذي أتحدث عنه، لأنه أصبح المرجع ومركز الاطمئنان، ومقياس الصحّة والخطأ، والغاية التي يسعون إلى إرضائها ..

ومن أدلة لزوم العبادة للإنسان أنه مدى التاريخ القديم والحديث، لم تقم حضارة واحدة بدون دين! بتعريف الدين أنّه ما يعتنقه الإنسان ويعتقده ويدين به. حيث وُجدت حضارات لا تُعنى بالفن، ووجدت حضارات لا تُعنى بالعلم، وأخرى لا تُعنى بعوامل أخرى، لكنّ عامل الدّين كان حاضراً بقوة في جميع الحضارات. وللقارئ أن يبحث في كتب التاريخ قديمها وحديثها عن حضارة قامت بلا إله يتوجه إليه الجميع بالعبادة! بل إن عامل الدين هو عامل أساسي لقيام الحضارة الإنسانية. ‎ولهذا فإن نسبة المؤمنين “حتى بالبقر والحجر” مدى التاريخ أعلى بكثير من نسبة غير المتدينين (إن وجدوا). نسأل هنا، هل سبب تدينهم منطقي؟ وأجيب طبعاً لا. هل كل المؤمنين يستطيعون إنشاء بناء منطقي أو علمي لوجود الإله؟ الإجابة لا. والمساكين يصيبهم الشك في أول نقاش منطقي يخوضونه. الحقيقة أن العباد يعبدون ويلتزمون بطقوس شاقة بدون بناء منطقي! مادلّ على أصليّة العبادة في نفوس العباد. ولأصلية هذه الطبيعة فإن تحرّر الإنسان من الدّين أو العبوديّة هو أمر غير ممكن، إلّا نادراً كما أسلفت حيث تكون ضرباً من الجنون..

وأعود إلى ما بدأت به المقال.. الإنسان عبد، فإذا ألحد العبد عن عبادة الله وحده، فإن عبوديته لن تفنى، هنا إذا يمكن تطبيق قانون نيوتن لحفظ الطاقة على حفظ العبودية فأقول:

العبوديّة في الإنسان لا تَفنى ولا تُستَحدث، بل تَتغير من شَكل إلى شَكل آخر

ولا بدّ بأن الشّكل الوحيد الأنسب والأكرم للإنسان هو عبادة الله وحده، باعتباره المرجع الوحيد الصّحيح الكامل المنّزه عن الزّلل والنقص والعيب. ففي حين نجد توجيه العبادة إلى غير الله مقيّد لحريّة الإنسان، نرى في المقابل بأن توجيه العبودية لله محرّر له، ذلك أنه كل ما زاد توجه الإنسان لعبودية الله -المرجع الكامل- والخضوع له، كل ما زاد تحرره من عبوديته وتعلقه، وحاجته لإرضاء كل ما سواه، وبالتالي زادت كرامته وارتفعت مكانته. وأما أشكال العبادة الأخرى فهي ربما لا تخرج عن حالتين مُزريتين، إما المذلّة، وإما الريبة والضّياع.. من أمثلة ذلك المعبودات الدنيئة، بما فيها عبادة الشيطان، عبادة المادة، عبادة الشهوات، … وأيضا عبادة العلوم وغيرها

وأذكر من أشكال عبادة غير الله التي نراها كثيراً عبادة الإنسان للإنسان، التي تنتج ما نعلمه من الممالك الدكتاتورية، ومظاهر الظلم والجور وإلخ. وهذا ما قصدته بالحالة الأولى المُذلّة للعابد..

وفي أفضل حالاتها عبادة غير الله تعالى لا تشبع حاجة الإنسان إلى المرجع وإن بدت كذلك، تبقى مرجعاً مريباً كحلٍ مؤقت أفضل من الجنون والشّكوك القاتلة. ولأن المراجع كلها ماعدا الله جل جلاله ناقصة، إذا تعمق فيها الإنسان وجد فيها تناقضات وقصوراً حتى خاب ظنه، واهتزت نفسه اهتزازاً مريعاً قد لا تحمد عقباه، لأن الطّعن في مصداقية المرجع، يعني الطّعن في كل شيء… كل شيء! وهذا ما قصدته بالحالة الثانية حالة الريبة والضّياع الناتجة عن الاعتماد على مرجع غير كامل

ربما يفسر لنا هذا الفهم للعبودية الكثير من الظواهر غير العقلانية، والميولات المنحرفة. كما يفسر أيضاً من الناحية الإيجابية مظاهر الهداية والحكمة والاطمئنان في الخلق..

أضف تعليق