منطَقة الشّرائع

*ملاحظة: فكرة المقال تنبني بشكل أساسي على صحة الدين، أي أنها ليست حجة على من لا دين له

وكأن بعض قلوبنا مازالت في ريبة، لم تطمئن بعد للإيمان اطمئناناً يجعلها في غنى عن البحث عن أدلة وبراهين ملموسة لكل ما جاءت به الشريعة. ذلك الشك الذي يجعلنا نخوض بغلو في تفسير ومنطقة كل ما بلغنا من الوحي. ويدفعنا لمحاولة تفسير أحكامنا وعقائدنا تفسيراً علمياً تجارُبياً يُرضي عقولنا، وعقول أقوام لا تدين بالإسلام أو التوحيد، ويعطي للأحكام الشرعية صبغة علمية، أو ربما عصرية!

في البداية أود التنويه إلى أنني لا أدعو هنا إلى إلغاء إعمال العقل، أو استنقاص العلوم والمنطق، ذلك أن البحث والاستقصاء محمود في الدين الإسلاميّ ذاته في كثير من النصوص الشرعية الصريحة. ولكنني كرهت الغلو في ربطه باعتقادنا وفهمنا للدين واطمئناننا إليه، وتأثيره في نفوسنا تأثيراً سلبياً.

إن الله تعالى قد حرم على بني إسرائيل في العهد القديم _ عهد موسى عليه السلام _ مالم يُحرم على من جاء من بعدهم حين أُرسل نبي الله عيسى عليه السلام من بعد بالتيسير والتسهيل على اللاحقين منهم في الشعائر التعبدية والأحكام الشرعية. وكما ورد في كتاب المستقبل لهذا الدين لسيد قطب: “ثم جاء المسيح _عليه السلام بالنصرانية … ومن ثم جاء مصدقاً لشريعة التوراة مع بعض تعديلات خفيفة، لرفع بعض الأثقال التي فرضت عليهم في صورة عقوبات تأديبية، او كفارات عن معصية؛ كالذي أشار إليه القرءان الكريم: (وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنْ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوْ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ)” وفي آية”ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم” -آل عمران ٥٠. وكذلك زاد تيسير الأحكام الشرعية على أمه محمد صلى الله عليه وسلم من بعدهم، فقد قال صلى الله عليه وسلم في “مسند أحمد بن حنبل” -: ((إنكم أمَّة أُرِيدَ بكم اليسر))

بناءً على هذه الاختلافات في الأحكام الشرعية المُنزلة من عند الله تعالى أفترض بأن ليس جميع ما حرم الله على عباده (أو على فريق منهم) مضرّ بالضرورة، وليس جميع ما فرض الله على عباده ندرك فوائده. ذلك أن ما حُرم على بني إسرائيل سابقاً أُحل لنا لاحقاً ولم يُلحق بنا ضرراً. وبالتأكيد لو أننا بحثنا عن مبررات لذلك التحريم لما كنّا لنجد لتحريمه تفسيراً علمياً. ما يحدث حالياً وهو ما جئت لنقده، هو محاولة إيجاد مبرر ملموس لكل ما هو مفروض علينا من عند الله تعالى، وإن كان فعلاً مُنطلق الشريعة منطقي ومبرر، يبقى ميولنا الشديد إلى إيجاد الأسباب بطريقة علمية تبرر تحريم المحرمات، و تبرر وجوب الواجبات، او تبرر صحة الاعتقاد وصحة ما روي في السنة وغيرها، ذلك الميول يخرجنا من نطاق الحيادية في البحث. بالإضافة إلى ذلك فإنه يضر بالحكم ذاته وبمصداقيته، وسأضرب أمثلة في هذا الصدد.

من الأمثلة الواردة في محاولة منطقة التحريم مثلاً، حكم تحريم النمص، وحكم تحريم أكل لحم الخنزير، وحكم تحريم الموسيقى، وغيرها، فقد ظهرت أقوال وتجارب علمية تشير إلى أن النمص يؤدي إلى مرض السرطان وأبحاث أخرى تقول بأنه يؤدي إلى قتل الخلايا، وظهرت أبحاث علمية تشير إلى أن لحم الخنزير يحتوي على أمراض، وبعض الأبحاث التي تشير إلى وجود دودة خبيثة في لحم الخنزير، وأبحاث أخرى تقول بأن لحمه سام، وظهرت أبحاث علمية تشير إلى أن المعازف والموسيقى تؤذي خلايا الدماغ، وأبحاث أخرى تقول بأن المعازف تسبب أمراض عصبية …وغيرها. الآن سأعرض المشاكل التي قد تنجم عن منطقة هذه الأحكام الشرعية، والتي دفعتني إلى استنكارها.

أولاً، نعرف جميعاً الخلافات القائمة بين المذاهب الإسلامية، لذلك فإن محاولة إيجاد تفسير علمي لأحكام شرعية مختلف فيها، قد تصبح مجرد هراء إذا ما تم الإجماع على حكم يخالف ما بُرهن عليه علمياً. حيث أن كثيراً من الأحكام المختلف فيها أجمع العلماء فيها فيما بعد بشيء يخالف ما كان يعتقده عامة الناس ويحاولون منطقته وتبرير حكمه بطريقة أو بأخرى.

ثانياً، محاولة إيجاد تفسير علمي لحكم شرعي يُبعد الباحث عن الحيادية بالضرورة، لأن الباحث في هذه الحالة يكون قد قرر نتيجة بحثه قبل أن يبدأ في البحث نفسه. كيف ذلك؟ ذلك أن صيغة سؤال البحث العلمي في هذه الحالات لن تكون مثلاً (هل لعدد ركعات الصلاة فوائد نفسية أو بيولوجية؟) بل ستكون صيغة السؤال (ماهي الفائدة النفسية أو البيولوجية التي نجنيها من عدد ركعات الصلاة؟)، وسيميل الباحث لإيجاد الفوائد وتجاهل كل ما يخالف ذلك بلا وعي منه، لأن ثوابت الدين لازمة، ونتيجة البحث مقررة مسبقاً. أو في مثال آخر، يعرف الباحث المسلم بأن زمزم لما شرب له، لذلك فإنه وقبل شروعه في البحث يعرف بأن نتيجة بحثه العلمي ستظهر صحة ذلك، فينحاز لتأييد فوائد ماء زمزم.

ثالثاً، فإن النظريات العلمية تبقى نظريات على الرغم من دقتها وارتفاع نسبة صحتها، فإنها تُرفض أحياناً في ظل ظهور أدلة وأبحاث علمية جديدة تُفندها. فإذا استندنا على سبيل المثال في حادثة انشقاق القمر بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبحاث علمية فلكية تشير إلى وجود شق في القمر، ثم فندت تلك الأبحاث لاحقاً بسبب ظهور أدلة علمية تؤكد بأن الشق ليس إلا شكل من أشكال التضاريس على القمر، فإن هذا التفنيد سيُضرّ بمصداقية حادثة انشقاق القمر في أعين الناس وإن كانت الحادثة ثابتة في السنة النبوية ولا غبار عليها، ولم تكن قبل منطقتها وربطها بالدليل العلمي تحتاج إلى دليل علمي يثبت صحتها.

رابعاً، البناء على الافتراضات، حين نحاول منطقة الشرائع بافتراض أن تفسيرها العلمي هو كذا. فإن من الأخطاء الشائعة اعتماد ذلك الافتراض وجعله حقيقة والبناء عليه. ومن أمثلة ذلك ، إذا أثبتت الأبحاث العلمية بأن تطبيقات الصلاة مفيدة للدورة الدموية والصحة النفسية، فيمكن إذاً تطبيق تلك الحركات لإفادة الجسم بدون نية الصلاة! قرأت سابقاً بأن تفسير تحريم النمص هو كونه تغيير لخلق الله، لو كان هذا التبرير للحكم صحيحاً لجاز عندئذٍ نمص الحواجب بدون تغيير شكلها! لو بررنا كراهة الرسول صلى الله عليه وسلم لتعليق ذوات الأرواح بأن فيها تعظيماً للغير الله، لجاز حينها البناء على ذلك والقول بأن تعليق صورة جماعية مضحكة لذكرى معينة جائز لأنها مضحكة وليس فيها أي تعظيم! “هذه مجرد أمثلة لتقريب الصورة بغض النظر عن الخلافات المذهبية فيها”

خامساً، محاولة تبرير جميع معتقدات الدين وأحكامه والتزاماتنا في إطاره، يجعل المؤمن في موقف ضعف إذا ما لم يجد تبريراً لجميع ما يريد في دينه. وربما ينقص من طمأنينته بالدين.

علينا أن ندرك بأن ما أنزل علينا بالوحي لا يحتاج إلى دليل علمي لإثباته إذا كنا مؤمنين ومسلمين بمعنى كلمة التسليم في مسمّانا. وأن ما ندركه من القرآن هو الدليل والبرهان على ما سواه، وأنه هو الأعلى في تصديقنا ووعيِنا، لا الأدنى الذي يحتاج إلى تدعيم دائم بالنظريات العلمية لجعله منطقياً مستساغاً.

إن الأحكام الشرعية، والعقائدية “الصحيحة” لاشك تصدر بحكمة قد ندركها وقد تغيب عنا، فإذا كانت الحكمة في مُتناول عقولنا لا بأس بِدراستها وطرحها، لكن علينا الاعتراف بأن عقولنا قاصرة لا تدرك جميع الأسباب والغيبيات ولا يمكنها الاطلاع على حكمة الله وقصده وراء كل أوامره ونواهيه، وتنزيلاته وشريعته، وخلقه وتسييره للكون. فإذا بلغنا إلى هذه الغيبيات، لسنا ملزمين بتفسيرها ومنطقتها ووضعها في قالب علمي قد لا يناسبها.

أضف تعليق