كبرنا وكبر الجنان

منذ إقلاع الطائرة، أو ربما قبل ذلك، يطير بي تفكيري إلى مكان واحد وكأن الجزائر الكبيرة ليس فيها سواه! أستطيع القول بأن سفرنا إلى الجزائر كان يعني لي بالدرجة الأولى رؤية الجنان، مزرعة بيتنا المليئة بنخيل تمر دقلة نور، والمسوّرة بأسوار طينية تقليدية، وفي مقدمتها بيتنا الصغير الذي لا أكترث كثيراً لوجوده، فمعظم وقتي كنت أقضيه في الجنان، بين أشجار النخيل العالية، وأشجار الرمان والمشمش والتين القليلة المنتشرة في أنحاء المكان.

حين نصل نخلع عباءة الرّزانة والإلتزام، ومع بنات عماتي وأبناء عمومي نرتكب جميع أنواع الجنون والشقاوة، فنتسلق النخل رغم صغر سننا وخطورة فعل ذلك، لكننا لا نجد لذة في غير المخاطرة والتحدي.. ومخالفة إرشادات الكبار! التحدي حاظر في جميع ألعابنا هناك، خاصة عندما يُخيم الليل، ويتحول الجنان إلى منطقة شديدة الظلمة، ويتحول النخل الطّيب المألوف إلى عرصات ضخمة سوداء شاهقة، تبدو المزرعة مهجورة إلا من صوت نباح الكلاب البعيد، والجنّ كما كنت أعتقد. حينها يحلو التّحدي الشّرير. من يستطيع الوصول إلى نهاية الجنان إلى سور الطّين العظيم يلمسه ويعود! طبعاً لا أحد يجرؤ على فعل ذلك، لأنّنا نخاف رؤية الجنان من بعيد ونحن مجتمعون معاً، فكيف بنا ونحن ندخله ونخترق ممرّاته المظلمة بمفردنا! لا يطول الليل كثيراً، فالنوم يغلبنا من الإجهاد والتعب، وسُرعان مايعود الصّبح الآمن، وتعود خضرة سعف النّخيل تعكس أشعّة الشّمس الصحراويّة الذهبية، ونعود نحن إلى ملاعبنا.

في الجنان دائماً يحلو لنا اللعب في “البَسان”. لم أكن في صغري أعرف من أين جاءت هذه الكلمة، لكنّني فيما بعد عرفت أن أصلها من الكلمة الفرنسيّة (بَسين: Bassin) أي الحوض، وهو حوض كبير من الإسمنت في مقدمة الجنان، يُضخّ إليه ماء البئر عبر أنابيب كبيرة، ثم ينقل ماء البَسان عبر أنابيب أخرى إلى الأرض، ليكمل مسيره في سواقٍ طينية، تشق الجنان بطريقة منظّمة بتوجيه من المزارع ليصل الماء إلى جميع الأحواض حيث يوجد النّخل، والأحواض هي تقسيمات لمناطق وجود النّخل، حيث أنه توجد كل ثلاث نخلات تقريباً في حوض واحد، تُسقى من الساقية معاً، ويُمنع عنها الماء معاً عن طريق سدّ مجرى الساقية بإحكام بالطين، عندما ترتوي. فيسير الماء عبر السواقي إلى الأحواض الأخرى الأبعد.

البَسان، يحفه النّخل من كلّ الجهات، حتى أن بعض جريدها (سعف النخل) يتدلّى لتلمس أطرافه ماء البَسان. وهناك في البَسان نُظمت قصائد وأشعار كنّا نحسبها موزونة ومحكمة البناء، نغنيها بسعادة ونحن نحوم حوله. كقصيدة أخي إبراهيم التي تقول:

استعمرت المكان . .

لأعوم في البسان . .

وأقول إلى الأمام . .

إلى السباحة والعومان . .

لأنني عبد الرحمن (الإسم للقافية فقط) . .

الذي أعطاني هذا الجنان . .

فيه نخل ومشماش ورمان . ..

وفي البسان تقوم جولات أخرى من التحديات واللعب. من يستطيع الغَطس تحت الماء لأطول فترة مُمكنة؟ ومن يستطيع تَجميع أكبر قدر من الحشَفّ (التمر اليابس الذي تلقيه الرّيح من النخل إلى قاع البَسان)؟ كنّا نطيل السّباحة واللعب وقت الظهر والكل نيام، حتى نتجمّد من برودة مياه البئر، فنخرج ونجلس على المقاعد الإسمنتية البيضاء التي تضفي على المزرعة مسحة جمالية، حيث تسطع شمس الظهيرة الحارقة، لنَشعر بالدّفئ يتغلغل في أطرافنا الصغيرة، ويوقظ عظامنا المتجمدة، وما إن تَعود دماؤنا إلى مجاريها، حتى نعود مرة أخرى في سباق إلى السّباحة في مياه البَسان الباردة. وهكذا حتى اسمرت بشراتنا كثيراً. وقد كان يٌعجبني لوني الأسمر الصّيفي!

كثيراً ما كنّا نعاقب بسبب ارتكابنا لمخالفات في الجنان كأن نقطف ثماراً من الأشجار قبل موسم نضجها مثل ثمار المشمش التي نحب أكلها حامضة، أو كأن نسدّ الأنبوب الذي ينقل الماء إلى السواقي، ليتجمّع عندنا الماء ويرتفع مستواه حتى يفيض البَسان في كثير من الأحيان. غالباً ما تنتهي مخالفاتنا تلك بحرماننا من السّباحة وإجبارنا على الدخول إلى المنزل والنوم.

جميع ألعابنا كانت مستمدّة من النخلة وإلى النخلة وفي النخلة. عندما يحين موعد تقليم النخيل في الجنان، أي موعد قص الجريد الزّائد القديم منها، نأخذ الجريد الملقى على الأرض نقطعه وننظفه ونحوله إلى عيدان صغيرة نلعب بها لعبة السّيق! وفي بعض الأحيان نصنع من الجريد الزائد ذلك نسيجاً في محاولة فاشلة منا لتقليد الحصير التقليدي. حتى تراب الجنان كان لعبة فقد كنا نحفره ونخبئ فيه ثماراً من الرمان والمشمش والتين ككنز سريّ لا أحد يعلم بمكان وجوده، وربما ننساها هناك أبداً! ما من جزء في الجنان إلا وحولناه إلى ساحة لعب بطريقتنا الخاصة. إنها الرّوح الطّفولية المرحة، التي لا تعرف حدوداً للإبداع والسّعادة، الطفولة التي تصنع ألعابها وتطوّع الطبيعة لتتماشى مع أهوائها، فهي لا تنتظر أحداً ليملي عليها قوانين اللعبة، بل تصنع قوانينها بنفسها، أو ربّما تفضل أن تجري اللعبة بدون قوانين.

إن أنفسنا عندما نسافر إلى الجزائر إنّما تتوق إلى التحرّر والسعادة اللامشروطة، لا إلى المزيد من القوانين. جمال تلك الطفولة في بساطتها وصدقها، وفي براءة علاقاتها مع الآخرين، فعلى الرغم من تكويننا لعصابات وفرق متنافسة مع أبناء عمومتنا، إلا أنه ربّما يكون فلان عدوك الآن، وفي لحظة ما تنسى عداءك له ليكون حليفك في اللعب لاحقاً. لا شيء يعكر صفو سعادتنا الطفولية في الجنان، حتّى وإن عُوقبنا نحوّل العقاب بطريقة لم أعد أجيدها إلى ضحك ومرح.

يحين الموعد الصارم، فنحزم أمتعتنا عائدين إلى المطار، وإلى التزاماتنا وإلى حياتنا المليئة بالقوانين الروتينية. نمضي ولا نحمل معنا من جنان طولقة -المنطقة- إلا ذكريات سعيدة، وبعض علب تمور دقلة نور، وهدايا عماتي، وحلوى البلد، وعملاته، وربما بعض الحجارة المُلتقطة من سواقي الجنان.

بعد سنين أرى النخل قد طال كثيراً، والبسان صغُر حجمه كثيراً، يا إلهي كنت أراه كبيراً جداً في السّابق! مياه البَسان لم تعد كما كانت أيضاً، فقد نَمَت الطحالب على جدرانه وأصبح لزجاً، لماذا لم تظهر تلك الطحالب عندما كنّا صغاراً! ربما أرادت أن تتيح لطفولتنا فرصة السباحة في مياه نظيفة. النخل الذي كان يتدلّى جريده ليلمس مياه البسان أصبح من المستحيل الوصول إليه ولو بسلّم! أراه مع الشمس بعيداً حينما أرفع رأسي لأعلى. أما أسوار الطين التي تحيط بالجنان فقد تحوّل نصفها إلى أسوار متينة عالية من الطوب والإسمنت. المنزل أصبح متصلاً بشبكة إنترنت سريعة طيلة الوقت، فتراني وأخوتي نجلس في المجلس، كلٌ منا يحمل جهازه متصلا بالشبكة. لكنّني لا أحب الجلوس مع شبكة الإنترنت في المنزل كثيراً، فأنا أؤثر الجلوس على حصيرة في الجنان، أو على الأراجيح الخشبية. لأنني بطبيعتي أكره الجُدران، وأكره الأبواب المُغلقة أيضاً.

كبر جناننا.. ونخلنا أصبح باسقاً، لكنّ ملامحه لم تتغيّر كثيراً. نحن أيضاً كبرنا وتغيّرت ملامحنا، وعقلياتنا، وتباينت شخصيّاتنا. لقد كبُرنا وكبر جناننا معنا. رغم ذلك فبساطتنا مازالت تظهر، وجنوننا مازال ينكشف عندما تطأ أقدامنا المزرعة، مازلت لا أعترف بجميع قوانين الكبار، ومازالت التحديات تُعقد كلّما التقيت الأصدقاء هناك، وكلّما خيّم الليل الحالك وغطى الجنان محوّلا إياه إلى مكان مرعب..

DSCN2985

أضف تعليق